ادب وفن

شارع المتنبي يتجاوز محليته ويبدأ في كل مكان / عبد جعفر

نظم الصالون الثقافي في لندن الذي تديره الشاعرة اللبنانية مريم مشتاوي أمسية مؤخرا، بمناسبة الذكرى الثامنة لتفجير شارع المتنبي في السابع من اذار 2007، في مطعم نورا في وسط لندن. قدمت فيها مداخلات عديدة، ابتدأها الشاعر فاضل السطاني في كلمة مؤثرة بعنوان "شارع المتنبي يبدأ هنا" جاء فيها:
في الخامس من آذار 2007، كما هو معروف، فجروا شارع المتنبي في بغداد. احترقت أقدم مكتبة، "العصرية"، وتهدم أقدم مقهى ثقافي "الشابندر"، وقتل أشهر بائع كتب "محمد حياوي". منذ تلك اللحظة، ارتفع شارع المتنبي من مجرد شارع، رغم عراقته وجلال ما يحمل، إلى رمز تجاوز محليته إلى مدن العالم الكبرى من لندن إلى سان فرانسيسكو، يتم تذكره سنويا ، كما نتذكر تلك الأيام المظلمة في تاريخ البشرية، حين تعاد القصة نفسها قبل هولاكو وبعده، قبل محاكم التفتيش وبعدها، وقبل محرقة الكتب الألمانية وبعدها.
وإذا كنا، عراقيين وعربا، قد نسينا هذا القصة بعد حين لكثرة قصصنا المفجعة، فإن أكثر من 150 شاعرا وكاتبا وفنانا غربيا لم ينسوا ذلك، بل شكلوا ما يشبه التحالف الثقافي، ليس فقط لإحياء ذكرى مأساة شارع المتنبي تحت شعار "حتى لا ننسى"، وإنما العمل أيضا، بقوة الكلمات نفسها، على منع تكرار ذلك في أي مكان من العالم، وفي أي زمان من الأزمنة.
وقد جاء الشاعر الأميركي بو بوسوليل مؤخرا إلى العاصمة البريطانية حاملا مشروعه الثقافي "شارع المتنبي يبدأ هنا". كان شيئا مؤثرا يجعل الدمع يطفر من عينيك وأنت تسمعه يتحدث بحرقة قد نفتقدها نحن، وكأن مأساة هذا الشارع مأساته الشخصية، وكأن الحدث قد جرى بالأمس فقط. ما الذي يدفع شاعرا أميركيا لفعل ما لم نفعله نحن؟ يقول بوسوليل إن ما يربط القارئ وبائع الكتب في شارع المتنبي، وما يربط بائع الكتب والقارئ في سان فرانسيسكو هو شيء بسيط ومباشر: إننا كلنا نتقاسم الإيمان نفسه، الإيمان بأن الكتب هي حاملة الذكريات، والأحلام، والأفكار. وهو يشعر أن هناك حاجة ماسة لإبقاء هذا الحدث التراجيدي حيا في ضمائرنا لأنه يحمل دلالات تاريخية وثقافية، سواء في أميركا أم في العراق، أم أي مكان في العالم.
ويريد هذا الشاعر الغريب من الكتاب والفنانين أن يستجيبوا لهذا الحدث، وأن يفكروا فيما أبعد منه، في أولئك الناس القتلى، شيعة وسنة، الذين وحدتهم المعرفة، وكانوا يشعرون بحماية التاريخ والفكر في ذلك الشارع، وأن يفكروا في الوقت نفسه في أولئك القتلة الذين استهدفوا الأفكار المبثوثة في كل كتاب. وفعلا، نجح بوسوليل على مدى سنوات في جمع لوحات كثيرة مكرسة لهذا الحدث الجليل من فنانين أميركيين خصوصا، ظل يطارد بعضهم طويلا كما يقول، ووصلته عشرات القصائد والشهادات التي جمعها في كتاب حمل اسم المشروع نفسه "شارع المتنبي يبدأ هنا" لشعراء معروفين، منهم، على سبيل المثال، الشاعرة الأميركية الكبيرة أدريان ريتش، الفائزة بـ "ميدالية المؤسسة الوطنية للكتاب للإسهام المتميز في الأدب الأميركي"، التي رحلت العالم الماضي عن 83 سنة.
ومن الشهادات المؤثرة، شهادة أنتوني شديد، المولود في أوكلاهوما عام 1963، الذي قتل في سوريا عام 2012. أثناء تغطيته أحداث الثورة السورية. وكان شديد قد زار شارع المتنبي عام 2003. والتقى آنذاك أحد أشهر بائعي الكتب، أبا عن جد، وهو محمد حياوي، الذي قتل أثناء تفجير الشارع.
وما يريده مشروع "شارع المتنبي يبدأ هنا"، أن نطرح عنا صمتنا ونحفز ذاكرتنا السريعة النسيان، وأن نردم المسافة بين "الشوارع الثقافية" في العالم، وخاصة الشوارع العربية، في معركتها ضد كارهي الكلمات، ومانعي الكتب وحارقيها أينما وجدوا في هذا الجزء البائس من المعمورة.
وقرأ السلطاني بعض القصائد التي قيلت في شارع المتنبي ومنها قصيدة
بائع كتب عادي إيشر كامكار، "شاعرة إيرانية تعيش في كاليفورنيا"
ليست جنائن بابل المعلقة، قال لي،
بل كتاب في كل جيب،
هو حديقة تحملها.
حمولته المغبرة في الهب،
رائحة اللحم المحترق،
والورق المحترق،
تبتلع الزقاق بحزن.
تحت التلّ
يكتب الفرات فصلا آخر،
يرتبط بذاكرته.
وأما القصيدة الثانية فهي "تفجير شارع المتنبي"
لبراين تيرنر "شاعر أميركي"
يقول فيها:
البنايات تلتقط النار، المقاهي،
محلات القرطاسية، مكتبة النهضة،
عامود ضخم من الدخان، سندان أسود يصاعد دخانه للأعلى
زيته كتاب الأغاني للأصفهاني، ومرثيات الخنساء،
وشعر يوسف والعزاوي في المنفى،
الأدعية الدينية، ترجمات هوميروس، شكسبير، ويتمان، ونيرودا.
أوراق الكتب هذه تفتل ألسنتهم المسودة،
في حرارة النار ذات الألسنة الزرقاء،
والقرون الطويلة التي تنقل من شخص لآخر
شعرا تلو شعر، كلمة تلو كلمة، وحكمة العصور-
إنها ترتفع فوق بغداد ليراها الكل..
نار اشتعلت لتطفىء الشمس.
وأعقبه الكاتب خالد القشطيني وتحدث فيها عن مشاهداته في شارع المتنبي ومقهى الشاهبندر، أعقبه الناقد المصري أمير العمري في الحديث أيضا عن أهمية الشارع ودوره في ذاكرة العراقيين والعرب.
وكان من المفروض عرض فيلم مقهى الشاهبندر الفائز بجائزة جريدة الفاينينشال تايمز ولكنه تعذر عرضه لاسباب فنية.