ادب وفن

الرسم بالأجساد الحية جدلية المفهوم والشكل / عبد الكريم سليم علي

يبدو أنَّ ضيق الفنانة سميرة خنجر من الأُطر والأفكار التقليدية التي حكمت واقع عملها بوصفها فنانة مسرحية نُسبّت للتدريس في قسم الفنون التشكيلية، فضلاً عن معضلة تقبّل الطلبة لمادة المسرح، جعلها تبحث عن اتجاهات وأساليب جديدة للتعامل مع تلك المشكلة المركبة، فقدمت معالجة ذكية أغرت من خلالها الطلبة وبثّت فيهم حب المسرح والاشتراك في العمل المسرحي اشتراكاً فعلياً كاملاً . نجحت سميرة خنجر في إعادة تشكيل بيئة الصف بفاعلية، بحيث وفرت فرصاَ أفضل لتعلم الطلبة مادة المسرح باعتمادها تقنية القدم في الباب لاستدراج الطلبة للعمل المسرحي من خلال تفهمها وتفاعلها مع حاجات الطلبة في إطارها الفردي وبعدها الاجتماعي، ومستفيدة من تقنيات البسيكودراما Psychodrama في إعادة تشكيل الحدث الانفعالي ، وتقديم وقائع وأحداث اجتماعية من خلال مواقف تمثيلية ساكنة باعتماد تشكيلات الجسد لفرد بعينه أو جماعة وحسب ما يقتضيه المشهد. إنّها محاولة جديدة للاحتفال ابداعياً بالجسد وجعله مادة العمل الفني الأساسية، حيث يمثّل المشهد حدثاً ملؤه التعبيرات الانفعالية في لوحة ساكنة وكأنها صورة مقتطعة من سلسلة أحداث الزمن، رؤية متكاملة مدروسة التفاصيل تحرص سميرة خنجر على تقديمها للجمهور بحيث يعي الافكار المقصودة، وربما تُشرك المتلقي في العمل ليكون في لحظة ما جزءاً من تشكيلات الموقف الذي صمم بحيث لا يكتمل إلاّ بحضور الجمهور.
تأسس خطاب العرض المسرحي في أعمال سميرة خنجر على قاعدة فلسفية تتكئ عليها المادة الفنية ضمن اطارها الجمالي، إذ تستند على نقل القبيح الذي يثير الألم والاشمئزاز كانعكاس للواقع الحياتي فاقد القيمة، وتأطيره ضمن صورة مشهدية تواشج بين الخطوط والألوان المنسجمة موظفة قوانين التناسق وقوة التعبير، فاستطاعت أن تضفي جمالاً على الاشياء التي هي ضمن واقعها وظروفها قبيحة أو ممسوخة، لأنّ ما تخلقه الحروب من دمار وتخريب ومشاهد قتل وجثث متناثرة الاشلاء ، فضلاً عن الفقر والتهجير يشكّل الهم الاكبر للمخرجة والوسط المستقبل للعرض في الوقت ذاته.
ومما لاشك فيه أنّ انفعال المخرجة بمجريات الاحداث دفعها الى التعبير عن شعورها الداخلي مظهرة احساسها المؤلم تجاهها، وفي الوقت ذاته سعت لإيصال هذا الاحساس للآخرين ليشاركوها فيه، فمن الطبيعي أن ترسم لوحاتها الحية - الساكنة - بأبشع صورها وأكثرها رعباً، وإثارة معتمدة في انتاج العرض وتلقيه ضمن سياقه الاجتماعي، فقد تعاملت مع أحداث تمثّل الدمامة والقبح والارتباك وجعلتها المادة الخام التي يتركب من خلالها الشكل من أجل احداث تأثير جمالي مقصود، محاكيةً بذلك استجابة ذهن المتلقي لمهارتها في الرسم والتركيب الإخراجي لتمرير عملية التغلب على مشاعر النفور المرتبطة باللوحات عبر النظر اليها من خلال المعنى المفهومي لمجموع اللوحات. والمتابع لعروض تشكيلات الجسد في أعمال سميرة خنجر يقف على زاوية تأثر بطروحات انطوان ارتو ، فالفضاء جديد يقوم على نبذ خشبة المسرح وصالة عرض الفنون التشكيلية معا، واستبدالهما بمكان واحد، بلا حواجز ، لتصبح قاعة العرض الأحداث نفسها، وبشكل يحقق الاتصال المباشر بين المتلقي والعرض ، لأنّ المتلقي وضع وسط الأحداث ، فأصبح مُحاطاً ومتأثراً بها . وبذلك أصبح الجمهور عنصراً ضرورياً ومنتجاً فعالاً يقف موقف المكمل للمشهد، والناقد للأحداث بشكل حي ومباشر.
وتدخل تفاصيل الديكور والمؤثرات الصوتية والضوئية في بناء حبكة المشهد بوصفها وحدة من وحداته العضوية، تسهم في تجسيد مضمون العرض أيضاً، فضلاً عن تأثر تجربة سميرة خنجر بمسرح السينوغراف البولندي جوزيف شاينا الذي اتخذ من الحروب والمعتقلات المثقلة بمناخها الكابوسي ونظرته التشاؤمية للعالم مادة تحدد صياغة مسرحه التشكيلي. كما تخلق مقاربة جوهرية مع مسرح الموت لـ تادوش كانتور والذي وظّف ضمن عروضه التماثيل الشمعية الثابتة التي تعبر عن الموت والخواء الانساني غير إنّها كانت مكملة لعمل الممثل المتحرك وليست بديلة له. تمثل الصيغ التشكيلية في معالجات المخرجة لغة فنية فريدة بوصفها لوحة تعبيرية مكثفة تشكل السينوغرافيا فيها العنصر الأهم مع تقليص دور اللغة والحركة في آن متجاوزةً بذلك التجارب السابقة عليها، وبخاصة في زمن غدت فيه الحركة والكروباتك والكيركراف والرقص الدرامي والمجاميع في حراكها الدائم على المنصة السمة المميزة لمسرح العصر، الأمر الذي حدا بالمخرجة الى احلال تكوينات كتلية مفعمة بعناصر مختلفة من المفردات المتدلية والخلفيات المجسمة الثابتة والالوان والاضواء بالاعتماد على فن التنسيق التشكيلي، وتناسق العلاقة المرئية بين كل مفردة من مفردات العرض للتعويض عن النقص الذي خلّفه أهم عنصرين تخلّت عنهما. فهي ترسم الصورة المسرحية بأجساد الممثلين للتعبير عن طروحاتها الفكرية وما تعانيه مع المتلقي وما ورثه الاثنان من قيم تمثلت بالحرب والموت وفساد المنظومة السياسية، فنجد شخصياتها في مجمل اللوحات مشوهة تجسد الموت في عوالم مفعمة بأجوائها الكابوسية الممتلئة بالفوضى والكوارث المفزعة لتغدو الشخصيات مشوهة من الداخل، وبالتالي نخلص الى لوحة مسرحية تتسم بجمالها الشكلي وقبحها الداخلي من جانب آخر تقوم الصورة النهائية لتشكيلات الجسد في أعمال سميرة خنجر على معطيات الحوار الجماعي، فهي تمنح الممثلين والاصدقاء وقتاً كافياً للاقتراح والابتكار والتجريب، ففي مرحلة الاعداد تكون قاعة العرض أشبه بورشة عمل جماعية. ويبدو أنّ جُلّ ما تؤمن به خنجر وتحاول تقديمه هو الفكرة أو المفهوم الذي تريد إبلاغه للملتقي دون تحيز لنظرية أو اتجاه فني. وذهبت خنجر في تجاربها أبعد من هذا في ازاحتها لدور الفنان الماهر والانفتاح على اشراك المحيط المجتمعي الذي نعيش فيه.
إنّ عروض تشكيلات الجسد في هذه التجربة ورغم سكونها وسيلة تعرّف وادراك حيث يصبح جسم الانسان مكاناً لإظهار وتجسيد صور ذاتية وأحداث اجتماعية ، وهذه الصور جملة من الاوجاع والصرخات وهي مزيج بين الصورة الملتقطة في الذاكرة العاطفية، ومعطيات صراع العقل الباطن . إنَّ تشكيلات الجسد في تلك العروض . علامة أيقونية ترسم في معانيها وأبعادها الدلالية ملامح القهر والاضطهاد والقتل ومصادرة الافكار والأحلام والتسلط وصورة محرجة تعكس الاغتراب الداخلي.
ومن المثير في عروض تشكيلات الجسد في اعمال سميرة خنجر أنّها تقدم بما يشبه بيئة بمشاهد متعددة وبمتغيرات كثيرة تشد المتلقي للانتباه لها والتفاعل معها ، فهي لا تولي اهتماماً بمسألة التتابع الزمني أو النظام السياقي في ترتيب العروض في الصالة لأنّ الاهم من وجهة نظرها هو طرح المفاهيم ، وتحويل فكرة ما وجعلها ملموسة ودافئة بحيث تحدث انطباعاً أكثر عمقاً عند المتلقي. لقد نجحت سميرة خنجر في خلق تشكيلات أظهرت قابلية الجسد على مطاوعة أفكار الذهن للمفاهيم الفكرية.
إننا نأمل أن تجد هذه التجربة الدعم الكافي وبما يحقق نقل تلك العروض الى ساحات الاحتفالات العامة والمنتديات الثقافية لتأخذ مديات أوسع وتفاصيل أدق في طرحها لمعاناة المواطن العراقي، إنّها تجربة فريدة ورائعة في مجال الفن تناصر ما هو مضيء للحياة ضد ما يجعلها ظلامية .