ادب وفن

ورق الخط ممتلئ برذاذ الحروف / فلاح حسن الخطاط

سعى الحزب الشيوعي العراقي الى أن يحتفي بكوكبة من مبدعي العراق. ما زالت تنحت بمحبة وحرص وأمل في صفحات الحضارة، ما يعزز ثراء تاريخ بلدهم وتنوعه الإنساني، ومع قسوة الظروف والأحداث والأزمنة فإن الجمال والغنى ارتبطا على الدوام بإنجازات تلك الكوكبة.
واليوم يحتفى بالشاعر والفنان والخطاط المجدد والمصمم الطباعي محمد سعيد الصكار. الذي يُعد من أبرز القمم الابداعية في العراق والعالم العربي، ففي الرابع والعشرين من شهر نيسان الماضي يكون قد دخل عامه الثمانين.
بدأ شغفه في الخط من (رانية)، الكلمة المخطوطة على باب صدىءٍ وملوثٍ بالغبار، بهرته وهو لا يزال طفلاً في الصف الثاني الابتدائي عام 1946، لم يقع في غرام الاسم ، لكنه وقع في غرام صورة تلك الكلمة التي رسمت بخط الرقعة.
ماذا كانت تشكل له المفردة التي سحرته وأخذته لسنوات من نخيل وبساتين المقدادية.. المنشأ والولادة وهو البصري وجداناً وعقلاً وشعراً؟ والألوان المتناثرة على نسيج كان ينشره والده عبد الواحد الصكار، بعد ان يكتسب أصباغاً من هذه الألوان التي افتتن بها وراح يبحث في أزقة وشوارع البصرة بمحلة الصبة (شارع ابي الاسود الدؤلي ) في العشار وهم يقضون أوقات فراغهم في الخط على جدران البيوت وإسفلت الشارع بالفحم تارة والطباشير تارة اخرى وعندما يركنون بيتهم يخطون على الورق.
كان لكل منهم رفيقة مرصودة له من صبايا المحلة ولم يكن للفتى الآتي من بلدة متاخمة للأرياف مثل هذه التجربة الغريبة، فكتب الى صديقه محمود في الخالص رسالة قال فيها "أول ما يتعلمه القادم الى البصرة، الخط والحب"، ومع هذا الواقع خطَ الصكار ولم تكن له رفيقة، من هنا كانت البدايات .
برعوا واحتكروا خط وحفر المانشيت الصحفي، وهم صادق الصايغ وكريم سلمان ومالك المقدادي وغازي الخطاط .
يصف الصكار لنا لحظة تأمل تسبق العمل الفني:
"ورق الخط ممتلئ برذاذ الحروف ..
والحبر مكتنز بالنوايا ومعتصم السكوت
ورق الخط ممتلئ بالترقب
والقصبة تتلوى كأنثى تنوء برغبتها ..
وهنا وهناك مئات العيون تراقبه
والصمت يصرخ واليد راقدة ، والأصابع لا تستجيب
زمن يترنح بين الأصابع ينبئني بإغتراب جديد".
الحديث عن تجربته تمتد وتتسع وتزداد سعة كل يوم عندما تمر في ممارسة جديدة، تلك هي العلاقة الجدلية بين حروف الأبجدية وحروف الخط. فقد وجد الصكار ضالته الفكرية في أن تأخذ الأبجدية العربية أشكالا مختلفة وكثيرة في الخط وفي الطباعة مما يستوجب تطويرها واختصار الزمن والكلفة في عصر المعلوماتية.
قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاما أعلن الشاعر الفنان محمد سعيد الصكار مشروعه (الأبجدية العربية المختصرة) التي أثارت يومها ضجة في الاوساط الثقافية والفنية والطباعية لما تمتلكه هذه التجربة من كسر لقيود الحرف الطباعي وتطوير له.
والمشروع يختصر فيه عدد الحروف العربية والطباعية لكي تتناسب مع اجهزة صف الحروف اليدوية والالكترونية في اسلوبها القياسي العالمي.
ونشرت في جريدة الثورة آنذاك، فهي تمثل نمطا فريدا في المجال الإبداعي، حفزت فنانين اخرين في الخوض بذات التجربة، إذ قدم لنا ناظم رمزي مجموعة من التجارب استخدمها في عناوين مجلة آفاق عربية، ومحاولة الشهيد سامي العتابي التي استخدمها في جريدتي طريق الشعب والفكر الجديد، ومحاولة أخرى لصادق الصايغ لم يكتب لها الانتشار.
فالأبجدية لم تعد لها حروف أولية أو وسطية أو متطرفة، فهذه الجذور تأخذ أشكال تلك الحروف حسب موقعها من الكلمة. وهذا هو باختصار أبجديته.
فقد شجعه وزير الاعلام آنذاك طارق عزيز ثم تخلى عنه، لكن الراحل شفيق الكمالي الشخصية المتنفذة آنذاك أسرَ له أن "حياتك في خطر". ولما بلغ الأمر أعلى سلطة سياسية في الدولة.. رئيس الجمهورية مع توصية خاصة، بأن قتل الصكار ضروري حفاظا على سلامة اللغة العربية.. وثمة شخصيات "ثقافية" معروفة ادت قسطها من الوشاية والتحريض لم تزل على قيد الحياة وقد غيرت بعضا من جلودها .
سجلت ابجدية الصكار براءة اختراع في كل من بغداد ولندن وباريس هذا الاختراع الذي أوشك أن يودي بحياة مخترعه، فمن يجرؤ على تهديد الحرف العربي والتلاعب بعدده وحجمه وشكله؟.
تلكم إحدى محن ثقافتنا وفننا.. عندما يقدس الحرف وينتهك الإنسان، أيهما الأهم؟
ابتكر الصكار خطوطاً عدة، منها الخط البصري الذي شرع في تنفيذ نماذجه الاولى في الصحف العراقية عام 1959، والخط العراقي المعتمد على وحدات الخط الديواني لكن بهيآت وأشكال متجددة، والخط الكوفي الخالص تيمنا بمدينة الخالص التي حفزته كلمة رانية ليكون خطاطا، ولم يستطع حتى الآن من تقليد كتابتها، والخط النباتي التزييني الذي يعتمد على تشابك الحروف والزخرفة بأشكال نباتية. ومجموعة من الابجديات سميت بأسماء الفرات، نيسان، سومر ، دجلة، ريا، والرافدين وغيرها من الخطوط ،نفذت من قبل شركة ديوان لتصنيع الحروف.
ومن مساهماته المهمة تصميمه لأغلب المجاميع الشعرية والقصصية التي صدرت في الستينيات والسبعينيات للأدباء العراقيين، وكانت نقلة مهمة في تصميم الأغلفة اختلفت عن التقليد الذي اتسمت به التصاميم قبل هذا التاريخ.
كما وضع تصاميم أغلفة مجلة الثقافة الجديدة بعد انقلاب تموز 1968 .. ولابد من الإشارة الى انه وضع تصميم طريق الشعب العدد صفر وخطَ ترويستها واعداداً اخرى تلته بحجم التابلويد بعد اعلان الجبهة الوطنية، قبل تكليف مهدي الخطاط بمشق الترويسة بخط الثلث الحالي تشبهاً بجريدة اتحاد الشعب.
أما أعمال الصكار الفنية في الرسم والزخرفة والتزويق، فتظهر السمات اللونية الحادة بدرجاتها من اللون الابيض الى منظومة ألوان أخرى. وتلك ميزة آتية من العالم الباطني. من ألوان تفرشها ذاكرته عن مهنة والده بصباغة الأقمشة والغزول بألوان مختلفة.
ولوحته لم تلتزم بقواعد الخط التقليدية الصارمة ولا يتجاوزها، بل يرجع هذا لوعيه وثقافته ومعرفته بالفنون المجاورة للخط في العمارة والتصميم والطباعة وكيمياء الألوان، فنراه ينتقل باللوحة من الخط التقليدي الى الحروفية التي تعتمد في بنائها على الحرف. ولانه متمكن من قواعد الخط العربي والمجدد في تصرف هيئة الحروف فقد نقله من الشكل الكلاسيكي إلى رؤية بصرية معاصرة .
وطالما ردد الصكار "حبري اسود فلا تطلبوا مني ان ارسم قوس قزح"، لكن أسودك أيها الفنان، أمتع الناظرين بأكثر كثيرا من ألوان الطيف.