ادب وفن

اللامنتمي في رواية «366» / صالح الرزوق

حازت رواية "366" لأمير تاج السر على إحدى الجوائز من "كتارا" في دورتها الأولى. والمتتبع لأعمال هذا الكاتب السوداني يلاحظ مدى اهتمامه بعالم اللاشعور، ووقوفه مع هفوات الإنسان النمطي، الذي لا يستطيع أن يتعرف على نفسه. فهو ساخط على الحظ والقدر وينظر بعين الشك والريبة للحالة الاجتماعية. والأهم من ذلك أنه يرى في الأحزاب السياسية نوعا من السفسطائية، ناهيك عن نظام الخوف والترهيب الذي تفرضه السلطات. ولا شك أن هذه الرؤية لا تأتي من فراغ، فقد مهد لها الطريق رمز من رموز الرواية العربية وهو نجيب محفوظ. من منا ينكر حالة الضياع التي خصص لها نجيب محفوظ نصف حياته الفنية، بدءا من "اللص والكلاب" وحتى "أفراح القبة". لقد رسم صورة اغترابية ومجحفة بحق أبطاله ومساعديهم. ولم يترك لهم في خاتمة المطاف غير المقابر. ولا يخفى على أحد ما في هذا الاختيار من تجريد، فهو يساوي الحياة مع الموت. ويمكن أن نصل لهذه النتيجة نفسها مع أمير تاج السر في هذه الرواية التي تبدأ وتنتهي برسالة من شخص اسمه "المرحوم"، والتي تختار لنفسها مجالا تحده مرايا متعاكسة، لأن موضوع الفصل الأول هو اليأس واختيار الموت عن طريق الانتحار. يعني بتدخل مباشر يلغي الدورة الطبيعية للنفس، وموضوع الفصل الأخير هو الكلام عن عشق يبلغ درجة التبتل ولا يوجد حل له غير الموت، ولذلك إن ما يهمنا هنا هو المرسل، وليس المرسل إليه، وبالأخص أن المرحوم موجود ولدينا دليل إثبات أنه من بقايا الجيل اللامنتمي، وأنه يوزع حياته بالتساوي على شرطه الإنساني، ثم على تصوراته وعالمه النفسي. بينما المرسل إليه خيال أو صورة في الذهن، وربما هو رمز مجرد لما نقول عنه المكبوت. وباعتبار أن الأحداث تدور حصرا في عالم، 90 في المئة منه ذكور لا بد للصور والرموز أن تكون مؤنثة. وعليه أجزم أن حب بطل الرواية لأسماء "بشخصيتها المركبة: صورتها التي تنقصها التفاصيل والتي نتعرف عليها من النشاط النفسي للمرحوم"، لا تدخل في حالة الحب العذري. فهي ليست قصة عاطفية أصلا. وهذا ما تثبته لنا الحبكة التي تتطور من النهاية إلى البداية، ومن خلفيات المجتمع أو من هوامشه وحتى جوهره المأزوم. حقا، إن بطل رواية "366" اختلف مع نفسه، ولكنه لم يكن عدميا على شاكلة أبطال حداثة الستينيات، أمثال زكريا تامر وغادة السمان. إنه لم يعتنق مبدأ الرفض لمجرد الاستنكار والهجاء، ولا كان مثل غيره من أبطال الجيل المعاكس أمثال شخصيات جاك كيرواك في روايته المعروفة والرائدة "على الطريق"، فهو لم يهرب مثلهم من الموضوع نحو الذات، ولم يختلف مع المبدأ القانوني للحرية "أقصد أن حريتك تنتهي حينما تبدأ حرية الآخرين".. وكانت خطاياه لا تتعدى الإثم المفروض عليه، الذي هو بدوره جراء الشعور بالعجز. وبالاستطراد، إنه في رحلته من الضياع إلى الهداية لم يتورط بالمشكلة التي يسميها التحليل النفسي "عقدة أوديب"، وأي قراءة مبسطة للرواية سوف تلاحظ أنها نموذج بدئي لهذه العقدة، أليست هي رحلة بحث عن امرأة ولها رصيد في الذهن وهو رصيد يعود لأيام الطفولة ولرضعة الفطام؟.
ومع ذلك فالرواية بريئة من الدم والعنف، إنها تأخذ من أوديب اهتمامه بالأم ولكنه لا يحل محل الأب ولا يرتكب حياله جريمة القتل المعروفة. أولا هو لم يخرج على الأصول المرعية في تسلسل الأحداث، وتتاليها وفي ترابط الأسباب بالنتائج، ثم في طريقة بناء الشخصيات التي هي صورة عن تقاليد مجتمع بطريركي وله خلفيات طوطمية، والمثال على ذلك طقوس الموت عند شمس العلا، وأساليب الصراع للبقاء عند جارته الجديدة عفراء. وثانيا حتى الجرائم التي وردت في الرواية لم تنتهك الشرط الخاص للحياة، فهي جرائم نظيفة ومن غير نقطة دم واحدة، وأضرب مثلا على ذلك الأسلوب المبتكر في قتل تجار الماشية. ثم ثالثا وأخيرا، لقد انتهت قصة العشق أو الغرام العفيف بموت العاشق من غير إسراف بالدراما، وكذلك من غير أي وعود بالخلاص، وكان موت البطل "الذي تسميه الرواية بالمرحوم" تصعيدا للجوهر الإيماني وبمثابة عودة إلى الفطرة أو اللاشعور، وربما اللامتناهي، وبقليل من التساهل يمكن أن أرى أنه فعلا قرار رمزي والغاية منه الاتحاد مع الصورة الكلية لله. ولا أعتقد أن هذا التفسير يتضارب مع الرؤية الرمزية لصراع الخير والشر في مجمل أعمال تاج السر، فهو إن صوّر جوهر التوحيد في الألوهية برمز أسماء "ضع في الذهن أنها حبيبته الوحيدة وغير المرئية"، فقد رسم صور الشر المتعددة والمتشابهة في روايته السابقة "قلم زينب"، وفيها إسقاط غير مباشر على شخصية الأفاق محور الأحداث، الذي يبدو للقارئ وكأنه صورة لإبليس، فهو من غير مكان إقامة وليست له هوية محددة، وغالبا وجهه أسمر بسبب ضياء الشمس الحارق. وهنا أشير لفرضية جورج طرابيشي.. أن أعمال نجيب محفوظ، ولا سيما "الطريق"، هي رحلة رمزية مخصصة للتواصل مع أفضل معنى لصور الجلالة الله. والحقيقة أن صابر بطل "الطريق" كان مدفوعا بدوافع نرجسية تعادي مفهومنا للخير وتقترب من المنطقة الحرام، لقد كانت لديه أسباب تحدوها المنفعة وليس الإيمان، وخلال ذلك لم يتورع عن كل الموبقات، وإذا بدأت الرواية بمشهد احتضار الأم ثم وفاتها، وهذا يحمل بصمات التهام الأم "بطقس أوديبي مروع" فإنها تنتهي أيضا بجريمة قتل مدبرة لرجل عجوز "وفي ذلك بصمات جريمة وأد الأب بطقس أوديبي أيضا". لقد التأم في المشهد قبل النهائي من "الطريق" كل أطراف عقدة أوديب: الزوج العجوز المخدوع، الزوجة الحسناء الفاتنة، والعاشق المتيم مفتول العضلات الذي يقيم معها علاقة زنى، وهذا يعني أن كل أركان الاستعارة الصريحة متوفرة أيضا، وهي: المشبه والمشبه به ووجه الشبه. لقد أقدم أمير تاج السر على تطوير الصيغ المعدلة لمشاكل أحفورية لا تذهب من ذهن المثقف العربي في أعمال هي درة العقد لديه، منها "أرض السودان المر والحلو"، التي أرى أنها إعادة صياغة لطرح الطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال"، ولكنه اختار أن يكون مسرح الأحداث في السودان وليس أوروبا، وأن تكون الجنوسة معكوسة، بحيث أن العضلات للمؤنث والضمير والوجدان للمذكر، بعبارة أخرى: كان رأس التخلف امرأة دموية تشبه مصاص الدماء الذي ابتكرته الإمبريالية، خلال عصر بناء الإمبراطوريات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب سوري