ادب وفن

آرثر ميلر في مواجهة الآلة الجهنمية الأمريكية / عزيز الساعدي

الكاتب المسرحي آرثر ميلر هو أحد أعمدة المسرح الأمريكي، وقد نال شهرة واسعة من خلال مسرحياته - البوتقة - ساحرات سالم، وموت بائع متجول، وكلهم أبنائي، والثمن ومسرحيته الشهيرة "بعد السقوط".
وقد أثارت هذه المسرحيات جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والفنية لمواقفها الجريئة في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية وهي الأكثر شهرة في تسليط الأضواء على سيرته الذاتية.
من خلال هذه الدراسة لمسرح آرثر ميلر سوف نتوقف عند مسرحياته الأكثر شهرة وهي "البوتقة" و"بعد السقوط" و"موت بائع متجول" وذلك لربطها الخاص والذاتي بالعام "القضايا الاجتماعية والسياسية".
إنّ ميلر يعتقد أنّ خطيئة الإنسان أنه لا يواجه نفسه بشجاعة ويحاسبها على أخطائها ويتهم الآخرين بالذنب ويبرئ نفسه من الذنوب.
ولكن لماذا آرثر ميلر؟
1.لموقفه الشجاع أمام لجنة مكارثي.
2.أم لإبداعه أعمالاً مسرحية كبيرة كشفت زيف الديمقراطية الأمريكية؟
3.أم لمواقفه الشجاعة إلى جانب أصدقائه في المحن؟
1. إنّ لجنة مكارثي سيئة الصيت التي شكلها القاضي مكارثي لمحاكمة ممثلي الفكر التقدمي - اليسار الأمريكي- وأغلبهم من رجال الفكر والأدب والفن أمثال الروائي جون شتاينبك صاحب رواية "عناقيد الغضب" والمخرج "إيليا كازان" وكذلك آرثر ميلر وآخرين.
وقد وجهت اللجنة تهمتين إلى آرثر ميلر:
الأولى: انتماؤه إلى تنظيم شيوعي.
والثانية: احتقاره الكونغرس الأمريكي لأنه رفض المثول أمام اللجنة.
وقد تمسك آرثر ميلر في دفاعه أمام هاتين التهمتين بالمادتين الرابعة والخامسة من الدستور الأمريكي والتي نصت الماة الرابعة على أن من حق المواطن في الأمان بالنسبة لأشخاصهم ومنازلهم وأوراقهم ضد أية تحريات أو اعتقالات غير مبررة تبريراً كافياً وواضحاً عن طريق اليمين والبينة. أما المادة الخامسة فتقضي بألا يكره أحد على الشهادة ضد نفسه. إلى جانب ذلك رفض ميلر الوشاية بأسماء أصدقائه لأنه اعتبر الإدلاء بأسمائهم بمثابة الخيانة التي تحط من قيمة الإنسان حد الاحتقار. وكان صديقه المخرج إيليا كازان محل هذا الاحتقار من قبل الكثيرين لأنه قام بالوشاية أمام اللجنة بأصدقائه.
2. أما أعماله الإبداعية التي كشفت زيف الديمقراطية الأمريكية:
أ. موت بائع متجول: ثيمتها جاءت نتيجة الكساد الاقتصادي المتردي الذي عانت منه الطبقة الفقيرة بحيث اضطر ميلر الشاب أن يعمل بمهن عدة لكي يحصل على قوته اليومي ويواصل دراسته. وقد جلبت هذه المسرحية الشهرة لميلر لأنها عرضت مأساة الرجل الصغير أمام القوى الرأسمالية الطاحنة والتي عصفت بملايين الناس بشكل وحشي وتحولت أحلامهم إلى تعاسة وخيبة أمل.
ب. مسرحية "البوتقة" أو "ساحرات سالم"
مسرحية "ساحرات سالم" كتبها ميلر بعد أزمة الكساد الاقتصادي في عام 1929 وقد سادت الفوضى والسرقة وأخذ الناس من شدة البؤس والجوع يتساقطون على أرصفة الشوارع حتى أضطر أبناء الطبقة الوسطى إلى بيع ربطات العنق.
ثيمة مسرحية ساحرات سالم تعد نموذجاً للتلقي والتأويل وذلك لاكتناز النص بالرموز والدلالات والصور التي تحفز مخيلة القارئ والمشاهد الذكي في كل زمان ومكان.
إنّ قرية "سالم" الوديعة والهادئة تجتاحها كالوباء تهمة السحر المدنس الذي يدعيه قس القرية -باريس- من أجل الانتقام من البسطاء المتشككين في أهليته لمنصب القس. فتطال تهمة السحر المدنس جميع شرفاء القرية من الفلاحين المؤمنين فتكون نتيجة البحث المسعور عن وهم السحر إعدام الكثير من الفلاحين الأبرياء بقرارات أصدرها القاضي "هال" الذي يشبه في الكثير من الأوجه "مكارثي" وبلغ الخوف والهلع بالفلاحين من تهمة السحر المدنس اعتراف الأبرياء منهم بخطايا لم يكونوا يرتكبونها كقراءة الكتب أو وجود دمية في البيت. هذه الصورة يستطيع المتلقي، القارئ، والمشاهد سحبها على كل انواع الاضطهاد الديني والاقتصادي والسياسي الذي حدث في أمريكا أيام الحملة المكارثية ضد المثقفين والتقدميين/ كتاب وفنانين ومفكرين، والتهمة المقاربة للسحر في ذلك الوقت هي الشيوعية تقدم للمحاكمة في حملة مسعورة شبيهة بحملة السعار الذي أجتاح قرية سالم، نقابيون ومحامون وكتاب كجون شتاينبك صاحب رواية عناقيد الغضب الذي تخلى عن مبادئه وذلك المخرج إيليا كازان وآرثر ميلر الذي دون مجريات التحقيق في مسرحيته الشهيرة "بعد السقوط".
إنّ القراءة المتأنية لمسرحية "ساحرات سالم" تكشف للمتلقي الموقف الشجاع للمؤلف ضد ممارسة الإرهاب للشعب ومحاولة إذلاله بشتى التهم الفاشية. وقد أشاد ميلر ببطولة الناس البسطاء الذين وقفوا مواقف شجاعة من القوى الظلامية التي حاولت تدمير حياتهم بذرائع وحجج عديدة، اقتصادية ودينية وسياسية.
وخير مثال على ذلك الموقف الشجاع للفلاح "بروكتور" أمام لجنة التحقيق:
والفورت: لماذا زارك الشيطان؟ من كان في رفقته؟
بروكتور: سأكتفي بتلوث اسمي فقط.
هاتورن: محاولتك إخفاء شركاء أبليس تعني أنك لا زلت في خدمته.
بروكتور: لقد أخبرتكم ما في طاقتي ولا يمكنني الزيادة - يوقع ورقة الاعتراف على نفسه-
والفورت: أعطني الورقة.
بروكتور: كيف تريد أن يحترمني أطفالي الثلاثة إذا علموا أني خنت أصدقائي؟
والفورت: لكنك لم تش بأحد.
بروكتور: لن تخدعني إذا علقت هذه الورقة على باب الكنيسة فإني سألوث أسماء أصدقائي لكنهم في اليوم الذي يشنقون فيه.
إنّ ميلر في خضم الصراع الاجتماعي ينتصر لحرية الضمير المتجسد في الإنسان المضحي بنفسه في سبيل انتصار القيم التي يعول عليها لبناء وتقدم الأمم والشعوب مستشهداً بمقولة المؤلف المسرحي يوجين أونيل القائلة: "لا تهمني العلاقات بين الإنسان والإنسان بل الذي يهمني هو الإنسان بالإله".
والقوى الإلهية كما يقر ميلر هي القوى المتمثلة بالأزمات الاقتصادية والشروط السياسية التي عذبت ومزقت واجتاحت جميع هؤلاء الذين وقع عليهم بصري.ص41
مسرحية "ساحرات سالم" نص حي يصلح للعرض في كل زمان ومكان يتعرض فيه الإنسان لكبت حريته الدينية والسياسية وهو غني من الناحية الجمالية والدرامية والتأويلية.. الصراع، والطقوس الغرائبية والرقص الإيقاعي سمات تغني مخيلة المخرج والممثل والمتلقي.
بعد ذلك كتب ميلر مسرحيته الملحمية "بعد السقوط". هذه المسرحية تجري أحداثها في ذهن بطلها كونتين - قرين ميلر- فيستحضر ماضيه ابتداءً من طفولته والشباب حتى رجولته ومثوله أمام لجنة مكارثي. ويؤكد ميلر على الإنسان الذي يواجه بشجاعة وإرادة قوته نفسه ويعترف بذنوبه وأخطائه الجسيمة في مواجهة الآخرين ولا يدعي البراءة والآخرين هم المذنبين.
تكنيك كتابة هذه المسرحية مركب من استحضار الماضي من خلال الحاضر وتداخلهما في لحظة معينة.
إنّ ميلر من خلال استحضار زوجته الثالثة "ماجي" الممثلة مارلين مونرو يعتقد أن سبب تدهور حياتها وانتحارها أنها لم تستطع مواجهة نفسها بشجاعة وتعترف بأخطائها التي أودت بها إلى الانتحار. ولأهمية الإيمان وقوة الإرادة والشجاعة يجري الحوار بين كونتن وزوجته ماجي.
ماجي: ما معنى بعث الحياة بعد الموت؟
كونتن: قوة الإيمان.
ماجي: وماذا بشأن عديمي الإيمان؟
كونتن: لا يملكون سوى الإرادة.
ماجي: ولكن كيف نحصل على الإرادة؟
كونتن: أن يكون لديك إيمان.
بدون إيمان بشيء نعيش من أجله معناه أن نواجه الفراغ الذي يعني الضياع الذي هو أقسى من الموت وسط هذه المتاهة ثم يعقب ذلك السقوط. ويبدأ كونتن محاكمة ذهنية لمجمل حياته بعد السقوط فيصل إلى نتيجة أن الإنسان هو سبب الشرّ والعنف وعليه أن يتحمل كافة الأخطاء التي قام بها وسببت مأساة وتعاسة الآخرين. إنّ هذه المحاكمة التي تدور في ذهن كونتن هي صحوة ضمير لما اقترفه بحق زوجاته وعشيقاته لضعفه أمام إغواء النساء.
إلا أنّ الموضوعة الرئيسة في هذه المسرحية الذهنية هي أن جراحات الماضي المتمثلة باستدعائه إلى محكمة مكارثي بشأن أفكاره ومعتقداته تبقى ماثلة وتطارد ميلر في الحلم واليقظة.