ادب وفن

قراءة استثنائية في «النص المفتوح» / علوان السلمان

شهد النص الشعري على مدى الامتدادات التاريخية تحولات فنية وفكرية تساوقت والتحول الفكري والزمني، ابتداء من شعر النهضة ومرورا بشعر الديوان ومدرسة ابولو والمهجر، اذ التجليات الرومانسية، وانتهاء بشعر التفعيلة المطلق "الحر" الذي خلخل الشكل الايقاعي الفراهيدي وتجاوز حدود المعاني، فصارت الوحدة كيانا متفردا قائما على وحدة تؤلف بين عناصر النص وتقدم موضوعها بطريقة ايحائية متحققة من استخدام التكنيكات الفنية المستلة من اللغة الشاعرة، والصورة الشعرية والرمز والموسيقى "الداخلية المنبعثة من بين ثنايا الألفاظ والخارجية المنطلقة من مبنى النص، فضلا عن المفارقة والتقانات الفنية كالحوار الذاتي "المونولوج"، والتنقيط "النص الصامت" الدال على الحذف والمسكوت عنه، والتكرار النمط الصوري والدلالة النفسية التي من خلالها يفرغ الشاعر مشاعره ليعيد التوازن ويكشف عن ايقاع داخلي مؤكد للحالة النفسية والانفعالية للذات الشاعرة، فكان لهذا التحول أثره الفاعل في انفتاح النص على المستوى الجمالي والفني والاسلوبي، وكانت قصيدة النثر المقطعية شاهدا ابداعيا شكلت نمطا تعبيريا متميزا بمعطياته الفنية وتقنياته الشكلية التي استوعبت التجربة والرؤيا بشكل معاصر، مسايرة للحركة الحياتية ومتطلباتها، كونها منظومة شعرية متمردة على الزمن ومتجاوزة للقوالب الجاهزة، وكل هذا يعني أنها تمتلك القدرة للخروج على الثبات مع جمعها لجماليات شكل القصيدة "الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة سياقيا وتركيبيا، وتوهج اللفظ مع وحدة موضوعية وعمق الرؤيا وشفافيتها، فالقصيدة القصيرة والقصيرة جدا "الومضة"، المتميزة بالتكثيف والايجاز وقصر العبارة المحققة لتقنية الانزياح، مع ضربة ادهاشية مفاجئة، فالنص المفتوح هو الدلالة والمعنى التي جاءت ملبية لدعوات مدارس التجديد النقدية كالبنيوية والتكعيبية والسريالية التي أسست جميعا للتفكيكية.. لذا فهو شكل من الكتابة التي لا تعرف النهاية في الحكي المكثف القائم على الحلم والخيال والدهشة والانفتاح والمغامرة فضلا عن محافظته على البنية الأساسية للشعر "الايحاء والاستعارة والتصوير الشعري.. المكتنز بدلالته المفتوحة على الفنون والآداب التي تسهم في بنائه والتي تحقق جماليته في التحرر والانطلاق في آفاق اللفظ والتركيب.. والذي يكشف عن عوالمه المنجز الابداعي الذي نسجته أنامل الدكتورة رباب هاشم حسين وطرزته بعلامة سيميائية دالة اعتلت غلافه "النص المفتوح وقراءات معاصرة اخرى"، كإضافة خلاقة للمكتبة خصوصا وللفكر الانساني عموما.. وذلك عبر عنواناته التنظيرية والتطبيقية التي امتدت على طول مائتين وثلاثين صفحة من القطع الكبير وهي معبأة بأربعة وثلاثين عنوانا انحصرت في "النص المفتوح.. مفهومه ومرجعياته، مع اهداء ومقدمة شكلت نصا موازيا كاشفا عن المتن "من التقنيات الجديدة المتأثرة بالأدب الغربي ما أنتجه الغربيون ونظروا له، أعني "النص المفتوح" وهو نص خارق عابر للأجناس الأدبية منفتح عليها جامع لها.. فهو نص تنافذي يعنى بتداخل الأجناس الأخرى، بل تحول لدى بعض دارسينا من نص الى جنس شعري.. جنس يرث قصيدة النثر، وهنا تكمن ميزته وثراؤه، والقارئ له لابد أن يكون قادرا على استيعاب النص المفتوح بكل تعريفاته ومفاهيمه وتشكيلاته نافذين منها الى دراسة شاعر عربي أو أكثر.." .. لذا كان أول العنوانات "النص المفتوح.. مفهومه ومرجعياته.. والذي تعرج فيه الكاتبة لتوضيحه ومرجعياته.. فهي ترى أن النص المفتوح "كتابة تزحزح الرتابة التي هيمنت على الأجناس الأدبية.."، ثم تعرج على الآراء الرائدة لهذا المصطلح وتقف على الناقد والفيلسوف والروائي الايطالي "امبرتو ايكو" الذي استخدمه في تحليل نصوص سردية وليست شعرية لجيمس جويس وعدها نصوصا مفتوحة.. فالانتقال الى البحث عن جذوره وأصوله فوجدت "أن النص المفتوح شكلاً من أشكال الكتابة الجديدة وأثرا من ثقافة ما بعد الحداثة المتمثلة بـ "جاك دريدا ورولان بارث وميشيل فوكو..".. أما حاضنته الحقيقية فكانت مع الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الذي جعل من "اناياز" و"ضيقة هذه المراكب" أنموذجين مهمين للنص المفتوح..."
ثم تعرج الكاتبة على ارهاصات النص المفتوح في النقد العربي بعد انتقالته من حاضنته الغربية مع اطلالة عام 1958 ونضجه وتبلوره نقديا عام 1969.. معللة ذلك بقولها المستل من اطروحة دكتوراه لابراهيم خليل عجيمي ـ اشكالية الشكل في الشعر العربي المعاصر من جيل الرواد الى جيل التسعينات ـ "اراد الشعراء الستينيون كتابة النص المفتوح ليطل على مستويات مختلفة.. فهو يوحي أكثر مما يقول.. يصدم أكثر مما يوافق.. يحاول أن يمزج في داخله الفكاهة بالّلَوعة والواقعي بالسحري والمعنى باللامعنى مثل لعبة مفتوحة على آلاف الاحتمالات نظل نلعبها حتى النهاية..".. فالوقوف على آراء بعض القصاصين والشعراء والنقاد العراقيين وما يختمر في ذهنهم عن النص المفتوح.. منهم الروائي شوقي كريم والدكتور ثائر العذاري الذي يرى انه "عمل أدبي يستخدم تقنيات السرد للغة شعرية تمتاز بأعلى درجات الكثافة وهو يختلف عن قصيدة النثر في عدم التزامه بنمط السطر الشعري وبدلا من ذلك يتخذ شكل لغة السرد المتدفقة من غير وقفات فيزياوية اجبارية..".. وهناك رأي للقاص كاظم حسوني والناقد علي الفواز الذي يقول عنه "لاشك أن مفهوم النص المفتوح كنص واجراء واحد من اكثر مفاهيم الكتابة اثارة للالتباس لأسباب معرفية وتعريفية..فالنص المفتوح فضاء غربي له تعقيداته النظرية والبنائية والنقدية..".. أما الناقد زهير الجبوري فيرى ان النص المفتوح "له مزايا ربما تخرج عن حدود الكتابة الاجناسية.. فالكتابة الاجناسية تنطوي على قوانين شاملة أخذت من انفتاح هذا المجال على الاشتغالات الأدبية المعروفة في كتابة الشعر والسرد.. لذا فهو كما أرى غير ظاهر بل هو فن أخذ عليه أو أدخل خانة ما بعد الحداثة.." وهناك رأي للشاعرة نجاة عبدالله والشاعر علي حنون العقابي والناقد والقاص جمال المظفر الذي يقلل من قيمة هذا الشكل "النص المفتوح" بقوله "لجأ الكثير من الأدباء الى اعتماد النص المفتوح والذي يخفي خلفه الكثير من الاخفاقات والغموض المتعمد بدعوى التجديد في الكتابة الأدبية والتي لا تعدو في الكثير من الأحيان جانب الخاطرة الشعرية أو النثرية..". وهناك رأي لخزعل الماجدي الذي يرى "ان النص المفتوح هو نص شعري وليس نصا لا جنس له أو عابرا للأنواع الأدبية بشكل خاص.. انه يقع اولا في منطقة الشعر ثم نراه متنافذا ومتداخلا مع حقول أخر.. واخيرا تستخلص الكاتبة رأيا موجزا مما طرح مفاده "لا نستطيع أن نعد النص المفتوح جنسا مختلفا عن قصيدة النثر بل هو وليدها ومجال تطورها فمثلما تفتق الشعر الحر "التفعيلة" عن أنماط شعرية تصب في جنسه كالقناع والمرايا والمعادل الموضوعي كذلك نرى أن النص المفتوح هو تشظ لقصيدة النثر لأن هذا النص بشكل موسع لا يخرج أبدا عن الجنسين الآنفين وأعني "قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر" التي لها ميزاتها المختلفة عن النص المفتوح الذي ينفتح على تشكيلات مختلفة كالرواية والمسرح والسينما والموسيقى..
بعدها تشير الى عوالم ظهوره وخصائصه الفنية بقولها "لقد ظهر النص المفتوح بوصفه ثورة كتابية أثارت جدل النقاد والمنظرين للأدب مؤكدين انفتاحه.. كونه نصاً قابلاً لأكثر من تأويل ممتد الجذور والأطراف.. نسيج من المرجعيات المتداخلة فيما بينها من دون ضابط ولا رقيب.. ولا يحد من جبروتها أي سلطان.. لذا فهو نظام سيميائي أو منظومة رمزية بالدرجة الاولى"، كما ورد في التأويل بين السيميائيات والتفكيكية بترجمة سعيد بنكراد.. اذ يستمد مقوماته من اللسانيات فهو بلاغة قديمة أعيدت صياغتها ضمن الفضاء المعرفي والثقافي السائد في المجتمع لفترة ما بعد الحداثة وهو أثر من ثقافة تلك الحداثة.." على حد تعبير الدكتور حسين خمري في نظرية النص من بنية المعنى الى سيميائية الدال..
ثم تخوض الكاتبة في أنماط النص المفتوح متكئة على دراسة خزعل الماجدي التي تنفتح على تسميات متعددة منها "نص السيرة/ نص اللعبة/ نص الجاندر/ نص المخطوطة/ نص الريبورتاج/ النص الباطني.." بعدها تغوص مبحرة في عوالم القصيدة الومضة في الشعر العربي المعاصر والتي يعرفها عزالدين المناصرة بأنها "قصيدة مكثفة تتضمن حالة مفارقة شعرية ادهاشية لها ختام مدهش مفتوح أو قاطع أو حاسم، وقد تكون قصيدة قصيرة جدا الى حد معين وتكون توقيعة اذا التزمت الكثافة او المفارقة ....". والتي تستمد شرعيتها من العمق التراثي للشعر العربي القديم وميله الى القصائد القصار والبيت الشعري الذي يمثل وحدة متكاملة.. وهناك التأثير الأجنبي والميل الى مسايرة العصر الذي وسم بعصر السرعة.. فضلا عن اعتمادها الفكرة المكثفة والضربة الادهاشية المفاجئة.. ثم تنطلق فتعوم في الشعر العربي كاشفة عن كتابها الذين تأثروا بهزيمة حزيران 1967.. فاخذوا ينشدون الى فعل التغيير على مستوى البنى الفنية والشعورية والفكرية.. كما عند سعدي يوسف وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور وعز الدين المناصرة ومحمود درويش واحمد مطر ومظفر النواب وادونيس وفاضل العزاوي وكاظم الحجاج.....فدراسة النص الأدبي بين البلاغة التي تضرب جذورها في عمق الزمن والاسلوبية التي تعني المعاصرة.. ثم تنصهر الكاتبة في عوالم السياب ابتداء من الاحباط العاطفي في شعره واسبابه وملامحه ومرورا بتجاربه العاطفية ومحاولة الانتقام من المرأة وانتهاء بتوظيف الرموز الاسطورية.. لما تنطوي عليه من طاقات ابداعية فاعلة ومؤثرة تكسب الشعر قدرات فنية ودلالية من خلال علاقات لغوية عميقة السعة والشمول بحيث تصبح بنية القصيدة نسيجا فريدا من الدلالات والرموز التي تحيل الى ذلك العالم الغامض الخفي الذي يتوخى الشاعر تجسيده على المستويات الفكرية والنفسية والانسانية.. ويعد السياب أول الشعراء من العراقيين استخداما للأساطير في شعره ولهذا دوافعه المتمثلة في محاولة تقليده للشعراء الغربيين أمثال ت. س. اليوت واديث سيتويل وجون كيتس وشيللي.. فضلا عن أن الكاتبة تجد أن توظيفها من قبل الشعراء الرواد قد أضاف نوعية الى الشعر العربي الحديث.. بالرغم من تفاوتهم في اساليب استخدامها.. اذ أن هنالك "من ذكر الشخصية الرامزة ومنهم من اتكأ على معناها العام دون ذكرها ومنهم من ذكرها وافاد من مغزاها العام.." كل حسب قناعاته ودوافعه وذلك لما في الأساطير "من طاقة رمزية تمنح الشاعر مجالا للتعبير ليفصح عن أفكاره على نحو فني يبعد القصيدة عن المباشرة والسطحية من جهة وينأى بالشاعر أحيانا أن يكون عرضة للأذى والملاحقة من جهة أخرى..." كما يقول علي حداد في "أثر التراث في الشعر العراقي الحديث".. وفي هذا الباب تطرح الكاتبة نماذج شعرية تشير الى طبيعة التوظيف الفني لدى كل من نازك وبدر شاكر السياب لكنها ترى "أن نازك تخلفت عن السياب في مجال التوظيف الفني للأساطير لما يمتلكه بدر من قدرة ابداعية بعد ان تمكن من ادائه واستطاع ان يربط بين الفكرة والعاطفة والرمز والبناء الفني للقصيدة وذاته وروح الجماعة على العكس من نازك التي ظلت قابعة في زوايا ذاتها تناجي باسها وحزنها اللامتناهي.."
ثم تفتح الكاتبة عنوانا جديدا "الأدب الموجه للأطفال نظرة في مرجعياته وتطوره في العالم فالوطن العربي فالعراق.. وفي كل هذا تؤكد على برمجة الثقافة وتعيين الأدب المقدم لهم بحيث يتواءم في شكله ومضمونه نموهم الفكري بلغة تعبر عن ذواتهم وحاجاتهم واهتماماتهم... وأخيرا تقف على مفهوم الشعر عند جابر عصفور فجدلية الدلالة والمعنى في النص الأدبي خاتمة المطاف.