ادب وفن

قراءة للمجموعة القصصية «خطى فراشة» / عقيل هاشم

"ثمة محطات غريبة ومدن طفولة وجسور هرمة تنتظر موتها الصاخب, وثمة جنود.. الكثير من جنود, الذين يطوح بهم التيه ويجرهم الشوق للأرصفة من أذانهم.. أينما حلوا.. أينما ارتحلوا .. ثمة مدن تغويهم وقطارات ليل تراودهم عن أنفسهم.. لاشيء أكثر تقشفا من حقيبة جندي....".
محمد حياوي
"خطى الفراشة".. مجموعة قصصية للقاص "عباس داخل حسن"، والصادرة عن دار الجواهري للنشر والتوزيع.. عام 2015..
توطئة
التجريب في كتابة النص المغاير في القصة القصيرة ضرورة جمالية، وتعد خاصية ملازمة للأدب، وممارسته مرهونة بتاريخية الكتابة وبالعصر وإشكالاته واقتضاءاته الفكرية. فلا يكفي في القصة القصيرة أو غيرها من الأجناس الأدبية ادعاء التحرر من التقاليد أو التحرر من ضيق ما هو مستهلك لكي تتحقق حداثة الكتابة، وجذريتها بل لا بد من ربط أي جهد حداثوي بتصورات جمالية مبنية تستند إلى وعي قادر على التبرير.
ان المغامرة في التجريب تجعل النص منفتحا على الاغتناء المستمر في الشكل والأسلوب والموضوع الجمالي. فالكتابة تتخطى الآفاق الجمالية السائدة بوصفها ممارسة تخييلية/ واعية، وضبط إشكاليته في علاقته بالأجناس الأدبية، فغالبا ما ننظر إلى التجريب بوصفه يحدث خارج هذا الحدس بخرق ضوابط الجنس الأدبي أو التعين خارج معاييره. اذن هي بحاجة إلى ترسخ ما في الذهن من خلال ممارسة تحدث وفق مراعاة الحدس، هذه المغامرة في التجديد الشكلي والأسلوبي والتي يعاد تشكيله وفق إمكانات يفرضها زمن فعل الكتابة يكون مؤسسا وفق تجربة القراءة والكتابة. ويكاد هذا الحدس أن يكون زمنيا وله صلة بالإدراك. فالقصة القصيرة تستوعبه حدسيا كونه استغرق نفسه في لحظة زمنية وإدراك متطلباته على مستوى السرد بوصفه اختبارا لممكنات الكتابة برمتها من دون الارتكان إلى حدس إجناسي ما. انه اختيار يقام فيه على نسف مفهوم الجنس الأدبي بما يستند إليه من حدس. فالرؤية تتعلق بزاوية المعالجة المستندة إلى وعي جمالي معين، وتوجه فني ما، وخلفية معرفية معينة، ومتحكمات محددة.
اذن لا يمكن الحديث عن التجريب في القصة القصيرة من دون الحديث عن الأسلوب الشخصي الذي يميز كاتبا عن غيره في معالجته الفنية للقصة. ولذلك تعد القصة مجالا خصبا للبرهنة على مهارات فردية في الأداء الأسلوبي. لا يكفي في التجريب هدم المرتكزات الفنية والجمالية ، بل لا بد له من تصور معرفي، يبرر هذا الفعل...
1-العتبة الأولى
إن القراءة في نصوص القاص عباس داخل سنجدها نتاج وعي فكري وجمالي للقاص الباحث عن كل شيء جديد ومغاير ومؤمن به, ومن خلال تمثل البنية الحكائية وإعادة توظيفها في البنية السردية الجديدة, باعتبارها جزءا من نسيجه العضوي ولذلك بدا واضحا في هذه القصص القصيرة هذا التداخل ما بين الفنتازي الغرائبي والحكائي حتى أضحى ذلك سمة خاصة بتلك النصوص. إن هذا الوعي الجمالي والفكري والذي عبر عن روح التمرد والتغيير جاءت متطابقة في مضمون الوعي الجمالي والرؤية إلى الواقع, وإدانة مظاهر الحرمان والبؤس للمدن والإنسان فيه الأمر الذي جعل الحرية في مفهومه الإبداعي الأدبي تتقاطع وتتساوق مع تأكيده على قيمة الحرية في الكتابة كشف لكل ما خرب ودمر لهذه المدن, وراح القاص يؤثث من خلال فضاء اللغة القصصية بالمجاز والاستعارة ذات الكثافة الحسية والتوتر والايحاء مما ساهم في إيجاد مناخات عوالم قصصه المعبرة عن علاقة شخوصه المختلة والمتوترة مع الذات والعالم, وتأخذ شعرية اللغة السردية أبعادها الواسعة والغنية, وقد تتماثل شخصيات أبطاله في شخصية واحدة, بسبب تماثل مناخاتها النفسية والروحية, ومضمون تجربتها, وعلاقتها بالواقع الذي تعيش في حالة غربة وانقطاع عنه, وتعاني جراءه من القهر والاغتراب والحرمان والضياع, بل أصبح يتمثل في بروز سلطة قامعة تفرض سطوتها ورعبها على الإنسان وعلى الحياة, وستظل هذه الثيمة واضحة في أعماله التالية.
لا تشبه المدن منذ الخلق، وهبها الاله تموزي الخلود، ومنذ أن خلق الله الأرض وفصل الظلمة عن النور وتوالي الصباحات. ومثل كل الصباحات التموزية يتربع على المدينة هدوء منقطع النظير لا يساويه سوى التالي الذي لا يفصله سوى حر الظهيرة القائظ الذي يمنح المدينة هدوءاً له معنى الاستراحة سيهجع الجميع,غرباء, بدو, باعة متجولون, أصحاب دكاكين, ومحلات تحت أقرب ظل يلفهم خدر طقوسي للاسترخاء أو التقلب بنوم منقطع, غواية قيلولة لابد منها، الا بعض الصبية المشاغبين...
إن البناء السردي الحكائي للنصوص والذي يميل في الغالب إلى الاقتصاد الواضح في اللغة, وقد ساهم هذا الميل للاقتصاد في اللغة, واعتماد التكثيف الشديد والمجاز في ظهور القصة القصيرة جدا عند القاص والتي تميز في كتابتها وساهم في تحديد عناصرها وهي التكثيف الشديد والإيجاز من خلال اللغة الشعرية الموحية.
"أصبحت صورة الحصان الذي يكسب الرهان تتصدر الصفحات الأولى، وما لبثت اخباره ان تكون حديث الساعة واليوم وعلى مدار السنة دون انقطاع في الصحف ونشرات أخبار الرياضة وحتى قرية الغجر بدأت حريصة على تتبع أخبار ذلك الحصان الذي تركوه طليقا لتفادي شؤم حل بهم في مناسبة سعيدة لكنها لم تنته كذلك"...
إن قراءة قصص المجموعة تحتاج الى مشاركة جد ية من القارئ للقبض على معناها الدلالي الذي يتخفى وراء مجازية اللغة ورمزيتها, فالقاص الذي لم يتعب من الحفر في قاع شخوصه, وفي قاع الواقع يسعى من خلال هذا البناء الخاص للغته إلى دفع القارئ للمشاركة في إكمال القصة, والحفر فيها للكشف عن مغزاها ودلالاتها الثاوية وراء قناع اللغة إن طابع الغرابة يمثل جزءا من خصوصية قصصه التي تتميز بها مجموعته القصصية, خلال الانفتاح الدائم على التجربة الإنسانية, وتمثل تحولات قيمها ومفاهيمها وعلاقات البشر داخلها, وقد استمر القاص في كل أعماله يواصل هذه المهمة الشاقة والمضنية بجدارة من يؤمن بقدسية الحياة والحرية الإنسانية, والخلاص من الاستعباد والجهل تدعمه في ذلك مخيلة خصبة وغنية, وحس نقدي ساخر ولاذع, مما منحه قدرته المتميزة على الاستمرار في العطاء, واغناء التجربة, والذهاب بها بعيدا وقد حافظت على عنصر المفارقة والتوتر والغرابة التي تتمثل حدود الواقع وصورته ولكن من دون أن تتخذ منه مرجعية لها.
"نظرت في المرآة وداعبت خصلات شعرها القصيرة المصبوغ بلون بني, وذهبت للحمام وأضافت قليلا من أحمر الشفاه، وأعدت طاولة الطعام بعناية ولامست الزهور التي تفضلها. بيضاء لازالت مشرئبة وناصعة تحتفظ ببهاء آسر رغم مرور ثلاثة أيام عليها وغرست بطاقة صغيرة الى جنبها مكتوب عليها بخط جميل "افروديت" اسم زهورها...".
2- العتبة الثانية
إذن هي مغامرة رسمت عبر تكوينات ثيمية أعادت توزيع الملفوظ ودلالاته من خلال الهدم والبناء فيجعل سلطة النص تقبض على عوالم قارئها من خلال فض الفضاء الاستعادي للأمكنة والأشخاص كوحدة دلالية والمشخصة بشكل إشاراتي والمتحررة من النص ذاته ,فقد ارتكزت النصوص على أسلوب فني جاور نفس القارئ/ المؤلف "الذات/ الموضوع"، وحاورها عبر المتون والذاكرة رغبة منه في تنمية الفعل الدراماتيكي للدلائل المبنية على متصالحات منسجمة تتخاصم في الجسد المكتوب لتتواءم في الجسد اللامكتوب.. وهذا ما أضمرته عتبات نصوصه العنوانات:" خطى فراشة/ نحيب الشموع/ سيرة السيد زرافة/ حصان الغجر/ بطاقة تعريف/ خيانة افتراضية/ شتيمة/ ثلاث نخلات/ عزاء/ ربما من عطارد/ من رأى الشيطان/ حديث قهرماني/ الواعظ/ البحث عن وظيفة/ اتهام غراب"...
المنسوجة ما بين "وهج الذاكرة المتخيل" كسردية متنوعة وبتقنية مازجة للمكانية الواقعية بالمكانية المتخيلة, تاركا للقارئ ان يتفاعل ان ينسج آثار الاكتشاف المتعامدة، والموغلة في البحث ، تلك الذاكرة الجمعية المحمولة على اللغة الحاملة لأبعاد الحياة الخارجية بصعدها الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، وكأنه يحفر في طبقات النص ما أخفته الغربة من سنوات الابتعاد القسري عن هذه الثيمات، وهكذا تشتبك الأحداث في بؤرة الابدال النازحة بالكاتب والقارئ بين الواقع والنص، اشتباكا يفرز في بياضاته سوادا آخر قابلا للقراءة وكأنه يحشد الأزمنة "الماضية/ الحاضرة / الآتية / النصية "، في لحظة الحذف والتدوين. اللحظة التي شكلت التوترات الأخرى الناتجة عن البنى، وشحنتها بطاقة تتسع في الفضاء والمكان والزمان واللغة.. مستندا على شعرية السرد " مشهديا، جمليا ، حسيا، ازاحيا.."، وكل ذلك ضمن تركيبية متماوجة جذرها الذاكرة ..
"صباح آذاري رائق كان العسس يختبئون خلف متاريسهم في زوايا المدينة وبخلسة يتفحصون من الكوات المفتوحة على الشوارع الى المارة من كل صنوف البشر, عمال, باعة، وموظفون غرباء مشوشين كل يبحث عن ضالته باستحياء وتردد في هذه المدينة المترامية التي تلف حول خراب معاصيها المولودة من رحم الماضي المفعم بالشقاء...
يرسم القاص عباس داخل عبر السرد القصصي خارطة للمدن الهرمة وأصحابها وتفاصيل صغيرة جدا تكمل لوحة الفسيفساء التي يرسمها السرد عن المدن بشكل غرائبي وعجائبي, بحيث أنه وبشيء من التخيل يمكن للقارئ تكوين صورة عن الحياة في المدن وعلى نحو قد يثير الدهشة والاستغراب. إن المكان هو البطل الرئيس حيث يندفع السرد لملاحقة تفاصيل المكان, وكأنها تضغط على ذاكرة المؤلف كي تولد من جديد في النص.. هو العين الرائية أو الكاميرا التي تتيح لنا أن نرى من خلالها المكان والحياة التي كانت موجودة في الماضي.
إن المؤلف هنا ممتلئ بحب المكان, مسكون بالنماذج الإنسانية وهذا يحتاج انطلاقا للمخيلة في بناء الأحداث وخلق الحياة والشخصيات , إلا أن المؤلف ظل حائرا بين الأمانة للذاكرة المحدودة والمحددة وبين الانسياب مع الخيال , وهذا ما أدى إلى لجم الخيال وبالتالي هذه الحيرة التي تبدت في ثنايا العمل بين السيرة والمخيال فيما بينهما.
" بعد عناء طويل وتقلب أفكار ووخز أحلام تقض مناماتها وجدت فرح ضالتها وتوقفت عن تقليب الصحف ومواقع الانترنيت ومسكت بخيط أمل آنساها كل التاريخ الذي صرفت دراستها الجامعية فيه وتخرجت بامتياز لترميه مرة واحدة خلفها من اجل الحصول على وظيفة أي كانت ...".
وفي الختام.. إن إخلاص القاص إلى عوالمه قد منحه ذلك الحضور الخاص, وأعطى نصوصه أهميتها من خلال اهتمامه بالبنية الدرامية للقص السردي والتركيز على الطابع الحكائي المكثف والموجز, وعلى عنصر المفارقة والسخرية والتهكم, لأن القاص بدا مهتما بالفكرة وبالكثافة الدرامية المتوترة, والغرائبية العجيبة التي تحاول أن تماثل صورة الواقع الغرائبي والعجيب والمضحك كذلك..