ادب وفن

محمود يعقوب ... وهو تحت جسره الهولندي / خليل مزهر الغالبي

"تحتَ جسر الهولندي"، مجموعة أربع روايات قصيرة للكاتب محمود يعقوب إصدار "دار ناشرون"، وحملت المجموعة تسمياتها الأربع" تحت جسر الهولندي، انهم يستنسخون حياتك أيها اللص الظريف، التأريخ السري للعقرب، اليقظات"، وكشف لنا الراوي خفايا ما في تحت جسره الروائي هذا، وهي محكيات منوعة وفق نمذجة شخوص ثيمها المستمدة من حضورهم المختلف المثول في واقع الحياة، ويسرد استقرائي التبئير وبما يلائم مقصود الخطاب في محاورة المستور النفسي لضرورات مفهوم بطولة الشخصيات الهامشية الموظفة في السرد، كما في العمولة الفنية لشخصية "زين" الطيب صالح مثلاً، وغيرها من المحكيات المنتقية لماهية الشخوص السلبية وفق شعور إنساني تضامني منعطف في حوارات الخطاب الأدبي وسرديته.
وعن دلالة عنونة المجموعة "تحت جسر الهولندي" ارتبطت باسم الجسر التاريخي المنصوب على نهر الهولندي الذي شقته قديما احدى شركات البزل الهولندية في طريق مدينة الناصرية - الشطرة، ولتعب الجسر هذا، نُصِبَ جسر اخر حديث بمحاذاته، وبقي الجسر لسير القليل من بعض العربات وغيرها من العبورات، منها سير الاشخاص، لكن تسميته بقيت كدالة تاريخية معلومة ومحفورة في الذاكرة الجمعية، ليرتاده البعض مكانا معزولا ومناسبا بسيطا لصيد السمك وجلسات مطرودين ومهمشين لما فيه من ظل وارف وثخين.
وعمل الروائي على شخصنة ابطال روايته، ومن تنشيط التخيل العامل لتداخلات السرد، وبما يمنح محكي الرواية نضوج شخوصها المهمشين كقيم سلبية، والمطابقة لدلالة تفاصيل ما تحت جسر الهولندي مثل هامشية المرأة الخنثى والشحاذين وانعزالية محمد العقرب وتحوله لقاتل كذلك الأسير العائد من اسر الحرب، وهذا ما اتضح في وصفية الشخصية السلبية في سردية الروايات العالمية الخاصة وخطابها الأدبي. وما في تلاقح الروائي من اهتمام واعتبارية لشخوصه في السرد، مع زمانكانية حراك ووقائع الروي، لأهمية مفهوم الزمنكانية لمحكي الرواية ومنها الاجتماعية والتاريخية والانثرولوجية، كما أثارها وأطلقها باختين عام 1938 في كتابه "أشكال الزمان والمكان في الرواية" حتى اتخذت ذلك الحضور السردي العالمي ويطلق ما بعد الزمنكانية مفهوم "الفضاء" في طبيعة سيرورتها المحدثة.
ولا ننسى هنا تأكيد الناقد- منيب محمد البوريمي - في ذكره "الحيز الزمكاني الذي تتمظهر فيه الشخصيات والأشياء متلبسة بالأحداث تبعاً لعوامل عدة تتصل بالرؤية الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبي وبحساسية الكاتب أو الروائي"، ولسيرورته لدى المفكر الظاهرتي "بلاشر" ومسميه له - بويطيقيا الفضاء - لأهميته في الثقافة الأدبية.
وقد تمكن الراوي في تجلي جمالية الفضاء داخل بناء عمله، ومن بدء الدلالة الزمنكائية في عنوان المجموعة تحت جسر الهولندي كمكان لزمان مضى، وقد كتب الكثير وأكد على أهمية الزمنكانية وتجديدها الفضائي داخل العمل الروائي من الادباء العالميين والعرب والعراقيين.
وقد تناولت الرواية القصيرة الاولى "تحت جسر الهولندي" والتي تحمل اسم المجموعة، موضوعة المرأة الخنثى، وفق دراسة مؤنسنة متعاطفة، لما يتعلق بها من السيكولوجيا الحياتية التعبة لوجودياتها المتعثرة الصعبة، وقد ارتدت هذه المرأة لباس الرجال وراحت تشتغل في بناء البيوت مع جمع من الرجال، ولماهية المحكي الروائي هذا الذي يعد من نادر الوجود الحياتي والتي راحت تتمرأى به احداث الرواية، ولطبيعة النهج في أنسنة التناول من تعاطف مع هذه المخلوقة المحاصرة بسببية تكوينها الجسدي الجنسي، ليمررها في مأزقية إنسانية مشحونة بدرجة قصوى من التأزم الاجتماعي ،خشية كشف مستور عيبها الجنسي، وقد بان على جسدها شفيف الجسد الانثوي وطراوته وبياضه، ومن أحايين مكشوف أطرافها ونبرة كلامها وتعبيرية حركاتها البريئة الخجلى والمثيرة للمراقب، وهذا ما تسرب الى سارد الرواية في تعاطفه وميوله للاقتراب منها،،كما حصل لها من "يحيى" ابن جارها ابراهيم الصباغ، وهو الشاب المراهق الذي هاجه منظر جسدها وهي تخلع ثيابها بعد رجوعها من العمل وتغتسل في ساحة بيتها المغلق، ليقوم هو بالنظر اليها من ثقب عمله ووسعه من اطلالة بيته، واندفاعه في مرة هياجه، ولما وَلّدَ هذا الحدث من صدى لدى الآخرين واستنكارهم له، وبما يؤكد انسانية السرد لهذه الموضوعة القليلة المثول والنادرة بشخصها، التي لا ترقى لتكون محور سردية تثير التأملات الفكرية الكثيرة لدى المتلقي المتعاطف مع شخصية المرأة، وهي من ذات أنسنة الخطاب وسرديته.
كما هي اشتغالات الرواية الثانية "انهم يستنسخون حياتك ايها اللص الظريف" المتضمنة موضوعة الشحاذين وهم يتعرضون لحملة طرد من العاصمة بغداد، واجتماعاتهم المتكررة لاتخاذ حل لمشكلتهم جراء هذا القرار الحكومي المهدد والمخرب لجمعهم، كما يعبر عن ذلك خبير الشحاذه منهم "زيدان"، "عن أي نوع من مشاعر القهر تريد أن أحدثك يا خالي؟... فقد ضاق علي وطني حتى صار في ضيق اسمالي التي تحكم الحصار على جسدي لأول مرة، وراحوا يعقدون جمعهم الشاكي المتذمر ازاء هذا القرار، كما يصفها زيدان المتكلم في الرواية "في تلك الليلة إلتأم شمل أرباب الكدية في دارنا الخربة، وطلبوا مني المشورة حيال هذه الداهية السوداء، وأذكر اننا سهرنا طويلاً نتداول أمر مصيرنا، ونحن نتخبط في تعاستنا"، ورأى لابد من الرحيل المؤقت الى مدن أخرى، مثلما رحل برفقة الصبية الشابة اللطيفة المحيا "حليمة" وما تعرض من خلالها لمشاكسات من البعض، حتى عودتهم للعاصمة.
وتبقى رواية "التاريخ السري للعقرب"، الأكثر لصقاً ومحاكات لحاضر الحياة العراقية، بما فيها من ظواهر قاهرة للنفس والوجود الوطني، وقد إمتدت على طول مرافق المجتمع وهددت حياة الناس، وحاكى الروائي موضوعة الأرهاب وسردها كموضوع مهم ومقارب للدرس المتعدد الرؤى السسيولوجية الانثروبولوجية والسياسية ومتعلقاتها الأخرى، الصانعة للقتل اليومي الرخيص، وقد صاغها الروائي بتناول دراسي من بدء بذر أسبابها التي إنبثق منها الافراد الخاصين المهيئين للقتل كما هو "محمد العقرب" وتلقفه من الجهات العليا لتنفيذ العمل الدموي، والمتمثل بتاجر الأغنام "لافي" في لقائه مع الرعات، وفق تناول وتحليل موفق بحججه الواقعية، وكانت شخصية - محمد- ذو العين الفاقعة بالانفراد والانعزالية بين أهله وسكان القرية، التي ولدت فيه ذلك الاندفاع، ومنه ذلك الفرد المناسب لتنفيذ جميع أوامر وحالات القتل، ليكون ذا الشأن في مجتمعه، لما له من طبيعة مهيئة لسماع وتنفيذ ما يريد اسياده القتلة، ولد - محمد العقرب - في - قرية المداحية- القابعة في أحد أودية جنوب مدينة كركوك، وعاش في ريفها مثل كلب حراسة يركض لاهثا خلف الماعز و الاغنام في وصف محكي لنشأته.
وما تعني طبيعة حياة "محمد العقرب" من خلوة في بعده عن الناس، من تنمية ما لديه من ضجر وعداء للآخرين، فلم يتمتع باللعب والمرح، وكل ما تعلمه هو تقليد أصوات الحيوانات بشكل يذهل حتى هذه الحيوانات" ويمثل سيمياءه في قول صديقه مازحا" لا أظن أن أحدا يستطيع يوما ان يراك فرحا مبتسما،إن وجهك مخفر من مخافر الشرطة".
وقد بَدَلّ زعيم الارهاب تاجر المواشي "لافي" اسم الإرهابي الجديد "محمد العقرب" ويسمعه بكنيته الجديدة "ابو جاسم" لتلطيفه وتقريبه أكثر من عمله الإجرامي، ولقائه برجل الدين ِالذي أسبغ الكلام السحري عليه "اذهلته مقدرة رجل الدين الغامرة في السيطرة على الحديث والامساك بتلابيب الكلام، كان كلامه أقرب للفصحى، مفعما بأقوال الاجداد والحكم والعِبر، كأنه يتكلم من على شاشة تلفاز، لم يتسن لمحمد العقرب أن استمع لمثل هذا السحر الهامس من قبل، دب الخدر في أوصاله الى درجة أعيته عن أن ينجح في إقحام قدميه في نعله بسهولةٍ حينما نهض وهم بالانصراف" وكما وصفته الرواية "عندما عاد العقرب الى المقهى رمى بجسده على الأريكة، بطريقة أوحت لتاجر المواشي بكل يقين مفعول المخدر سرى عميقاً في جسده و روحه".
أما الرواية القصيرة الرابعة والأخيرة من المجموعة والتي تحمل عنوان "اليقظات" والماثلة بشخص ذلك الأسير العائد "ابو علي البعشيقي"، وهو الانسان الفقير العائد والمفارق لأهله وناسه من مصائب الحروب التي لا يمت لها بناقة ولا جمل كما يقولها من أساه في ذلك، وراح "علي" يعمل في نقل التراب الى داخل نادي الموظفين، ثم راح محكي السرد وبتفصيل سايكولوجي واضح في تبيان رغبته وتقربه من الزبائن وهم متحلقين على طاولات الشرب، وما شعور رئيس متعهدي النادي في غض الطرف عن اقترابه من الزبائن وهو يراقبه من هنا وهناك ليصفه مثل "ذبابة تحوم حول عسل".
حرصت الروائية على خلق المتعة القرائية وفتح وسع كبير لمحقق التلقي، لمائزتها في مبدع ملفوظها اللغوي الحاكي والسارد للغتها، وبتعبير وتصوير تخيلي لاذْ في إيصالها القرائي الاوسع، وضمن لغة متداولة غير خارجة عن الصائب النحوي، لفعالية اللغة في تحقيق ابداع ونجاح السرد هذا، ولم يقم بناءه اللغوي وفق مفهوم اللغة الإيصالية المتشاكلة مع التقرير الحكائي الطبيعي للغة، بل اتسم ملفوظ قصها بالإعتناء الصرفي للغة وبما يقرب من الايصالية الجمالية، لما للغة من بصمة في الإبداع المحقق العالمي وبلوغ جمال المنتج الأدبي عموماً.
وإتسمت كتابة المجموعة بالتكثيف السردي في بناء خصائص الجانب الخارجي للواقع المرئي، وبتماه مع الخارجي اللامرئي، حيث هرمونية السرد ليتصيّر سرداً مراقباً وناقلاً فاعلاً للمخفي المستور ومتقمصاً لوعي الفرد الجمعي تحت ضغوط نفسية خاصة على الذات المخفية في وعي الشخصية, ليصير لإيحائيات حدث شبه مرئي تخيلي، ومن إلمام تجربة الروائي "محمود يعقوب" بآليات السرد في انتقائه الاجتماعي المؤنسن وايحائية لغته الموحية من داخل الجملة السردية لخارجها المتلقي المؤول، في انساق الكتابة باللغة العليا وفق تسمية "جان كوهين" للغة العمل الأدبي المتقدم والمتوفق في الإبداع، وبمرورات تعبيرية، مَكَن الروائي من إنضاج محكيها السردي في تمكين وتحصيل دعوة القارئ وتلقيه الفاعل لنشاط اللغة في السرد، ومن أهمية مفهوم التلقي للمنتج الروائي وغيره من الأجناس الأدبية عموماً.