ادب وفن

النقد والمقدس الخفي / قيس مجيد المولى

تعمق الوعي شعريا بوعي الثقافة كمدخل لاستنباط العديد من الإشكاليات الفكرية التي تساهم في إمدادات جديدة للمخيلة، وقد أخذت الحضارة تمثل وطأتها الثقيلة أمام حاجة الإنسان لما يشفي ذاته حينَ بدأت تعيش شكلها الدرامي كمحصلة أكيدة لمحاولات التجديد وظهور النظريات والتيارات الفكرية وبهذا خلق من الرمز وجودا حيا ومن الباطن إطالة إنصات للتعبير، دون الحاجة لتسوية إنسجامية ما بين العلاقات التي أثرت اللغة زمنا طويلا بصيغها العملية ضمن علاقاتها الواقعية والعامة.
وقد رافق ذلك أن توغل النقد في أعماق الماضي بعد أن حاول إعطاء شفرات ما للأشياء التي لابد من أعادة النظر بها وخلال مئتي عامٍ من الجهد الإنساني الذي تعاقب عليه العشرات من الشعراء المهمين ضمن القارة الأوروبية تم تقييم منجزات العصور الأدبية الحديثة، وأعيد تداول المفاهيم الإغريقية القديمة بشأن الشعر، وتوظيف القدرات النقدية لدراسة الجمال ومفهومه، وكان المسرح آنذاك وما كتب له هو الآخر قريبا مما كتب عن الشعر أو لصيقا له، ولا شك رافق ذلك تحولات سياسية وهزات كبيرة ومنها الثورات الأوروبية كثورة نابليون في فرنسا والخريطة الجديدة لأوروبا والعالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتداخل الصراع وسيادة الإقطاع وازدهار الاكتشافات العلمية الأولية والسيطرة الاستعمارية وتنامي رؤوس الأموال بيد القلة في المجتمع واضطهاد العمل الذي تعرضت له المرأة والأطفال في المعامل والمصانع وشيوع التوق إلى الحرية ضمن شيوع مبادئ حقوق الإنسان التي أعلنها الرئيس ولسن.
بدأ النقد يكشف أن هناك تحولا كبيرا بمفاهيم ركائز الإنتاج الشعري ومنها اللغة ووظيفة المخيلة ومفهوم الخيال ومدرك الموجودات والملكات الإبداعية والعقل الباطن والشعور والإحساس والتناقض والعقل المتطفل والتصور والابتداع وكافة أوجه النشاط الشعري الأخرى التي تعني للنقد أن يخرج بحصيلة ما عن الشعر الذي كتب في الماضي والذي بدأ يُكتب الآن ،وكيف يتعامل النقد مع هذين المنتجين عبر تلك الأزمات وما ولدّت من الآلام جمعية ساهمت في تفجير الوجدان الإنساني وفي النظر الى الحقائق والمتطلبات الكونية بنظرة من اليأس والتمرد، وكان لابد من المعجزة التي توحد الذات ليس في الشعر فقط وفي الأجناس الأدبية الخاصة بالشعر، الأغنية، الأنشودة الرعوية ،الملحمة، الدراما، لإحياء وإيجاد ما كان لذيذا ومخفيا في الماضي.
إن الإدراك الأهم من ذلك ولربما المُعبر عنه أن الشعر مقدس خفي في ظلام الأسرار وهو حالة رفيعة دون أن يطلى بشيء من الدينية أو أشكال التأثيرات الأخرى التي اعتمدت من البعض كعكاز للوصول للمتلقي، فقد تفرع النص الواحد إلى نصوص عديدة اتجهت إلى الابتعاد عن عقلية العصر وهنا أصاب النقد حين حلل أسباب هذا الاتجاه وأستخلص أن كل الذي جرى كان من الضرورات استجابة للمواء الذي في باطن الإنسان وهو مواء يشبه الموت فنهضت قوة تشتيت الخيال وامتلكت اللامتناهيات زمامها لتتوالد الأحداث وتتناسل الأزمنة والأمكنة، كل ذلك جرى بصوت الأنا الواحدة التي أنهت نظام الاتكال على حرفية الماضي ليبلغ الشعر ذروته الغريبة ولازال النقاد يعتقدون أن هناك الكثير الذي مضى والذي لابد من الاستدلال على قواه الأخرى المخفية فيه كي يصار بعد ذلك لنسيانه ووضعه على الرفوف شاهدا فقط على عصره.
وجد النقاد الذين لازموا ثورة الحداثة الشعرية أن هناك طاقات ضخمة في اللغة وهذه الطاقات مخبوءة في بلاغة الغامض من الكلمة وما يشكله ذلك الغموض من إضافة مذهلة لسحر الجملة الشعرية والتي تديم إرسالياتها مع تلك الغرائبية التي تنقل المتلقي إلى المجاهل السحيقة لا بتأثير المضمون العام للنص وإنما بتأثير السُّلم الانتقالي الذي يتصاعد تباعا ولا يختفي عند حد إنما يتواصل في حشد طاقات الدلالات والرموز والأفكار التي تُنتج أثناء سياق الاسترسال أو تلك التي تخلقها اللحظة المبكرة التي تخلق التعبيرات المكثفة ذات المحتوى المتعدد، وهي تحمل تناقضها التي لا تصل لنهاية.
وقد وجد النقاد معبرا أخر نحو جوهر الحداثة يتمثل في استخدام شعراء قصيدة النثر في فرنسا وسائلهم الفنية الخاصة لقولبة التأثير المادي على المخيلة وهي أحدى الوسائل للتعامل مع المحسوسات ضمن محسوسات أخرى تتباين في الفائدة والحجم والشكل والوظيفة، فهناك بدائل استخدامية صالحة تكمن بإزاحة الشيء الأصل بشيء آخر أعمق كونية وأكبر اتساعا، وهذا يعني الدخول الى ماهو في ذاته ثم الانتقال إلى تأثير قيمة مشابهة من حيث تأثير المعنى بما يولد تناقضا مطلقا ما بين صورتها ووجودها ضمن حركتها الجديدة وما تعطيه من سلاسة ومرونة لتسهل عملية التزاوج ما بين وحدات النص من جهة ،والموقف الجزئي والشمولي بوجود تمرد دائم في كل إعادةٍ لرؤيةٍ ما غير مشروطة باتخاذ ملامح نهائية، إذ أن ذلك التشتت أغنى التجربة بحميميتها وأدام زخم التطلع إلى الماورائيات غير المحدودة ليكون انطباع الغرابة في قصيدة النثر الأوربية إلى تلك الفوضى غير المباشرة التحسس التي يخلق شكلها بتمردها على الأسلوبية المشاعة بخروجها من المشهد الداخلي إلى عالم الامتداد اللامتناهي والعمق الزمني، اهتمت قصيدة النثر في إيجاد صياغة جديدة للأشياء التي ينتجها الواقع وهذا يعني أن الخيال لا يتمثل بها رغم تأثيرها عليه فعلى الخيال أن يمنح قدراً آخر من القيمة لموجوداته كونه قادرا على الابتعاد عن المناطق المألوفة وفيه سرعة المغادرة لكل الصور الشعرية التي سبق وأنتجها وهذا يعني أن هناك علاقة ما بين الانسجام وبين التناقض غير مرهونة بآلية معينة سوى آلية اللحظة المبتكرة التي تساعد على تقديم الشكل المتحرر الذي يؤمن استخدام المطلق من الحرية والمطلق من العبث المنظم، ووفق هذا التصور فأن المعرفة البنائية في قصيدة النثر لا تخضع إلى معمارية ترتيب الكلمات أو نظام تركيب الجملة الشعرية المعهود في القصيدة القديمة لا من حيث الشكل فقط وإنما من حيث الترابط التصويري التي تعمل المخيلة المفتوحة على استكمال مظاهر الكلمات واستدلالاتها وبذلك فأن العناصر الشعرية تكون على درجة من التوتر والحيوية وتؤمن انسيابية السرد الشعري ضمن الدوائر المضغوطة وغير السائبة داخل بناء المعنى ليتم القبض على الجانب المُحير في أي حركة من حركات النص النثري، أشارت سوزان برنار حيث اتخذت من بودلير ورامبو ولوتريامون ومالارميه مايجمع ويتقاطع في الإيقاع والعنصر المخادع وأنماط الجمل والتراكيب اللغوية فهي تقدم تعريفا لمفهوم الشعر استنادا لما يراه مالارميه «إن الشعر هو التعبير الخفي عن مظاهر الوجود»، ولاشك أن ذلك يعني عدم مس الوجود مساً مباشرا وكذلك إعادة نثر أجزائه المتناثرة في صدفة لا نهائية أمام عالم أخر لتأخذ المغامرة الشعرية فرصتها في تقديم أخر لغير المتجاوب الذي يمكن تحقيق علاقات جديدة من خلاله باعتبار أن لحظة الإكتشاف هي لحظة قائمة في كل إنتقالية بين جملة شعرية وأخرى.
لقد غيرت قصيدة النثر أي انتقلت من نظام لآخر من نظام الأشياء التي إتخذت لها أنساقا متقاربة إلى نظام الأحاسيس ليصبح كل شيء مأخوذا بقدرة كثافة المخيلة عند خلقها لترسم صورها عبر إرسالية غير قابلة للإنتهاء.
إن الحداثة الجديدة ووفق الرؤية النقدية قد عملت على توسيع اهتمامات الشعراء في التجربة الإنسانية وتفننوا في فنية التجريب لتجارب الحياة للظفر بالأصيل الذي يلائم تطوره الحداثوي بعد أن هيئات لهم تجربتهم الشعرية وسائل جديدة للتعبير باللغة الملائمة ولم يكتفوا فقط بكشف أسرارها بل عملوا على إعادة صياغة تلك الأسرار وفق متطلبات حاجاتهم الشعرية الجديدة.