ادب وفن

سؤال التأثر في رواية "خمسة أصوات" / محمد رشيد السعيدي

يبدو أن لزمن القراءة تأثيرا في رؤيتها للنص المقروء، فضلا عن المؤثرات المسبقة. ويتعلق زمن القراءة بأكثر من عامل كلها لا تمت بصلة الى النص؛ لذا تبقى القراءة النصية هي الأقرب الى الحيادية منها توزيع الكتاب، ووقوعه بين بيدي القارئ، ثم تفرغه له أو اهتمامه به، فقراءته نقديا.
وعلى فرض استبعاد الرؤية المسبقة للنص، تلك التي تتعلق بأشياء كثيرة تحيط بالنص، كشخصية الكاتب وأفكاره وعلاقته الشخصية بالقارئ، وموقفه أو موقف السلطات منه، والعوامل النفسية، أو رؤية الذات القارئة للمؤلف ولنصه، فإن زمن القراءة لا يقل أهمية عن ذلك كثيرا، من حيث بعده أو قربه من وقت نشر النص، ولوقت نشر النص الآخر بعض تلك الأهمية، من حين المقارنة. ولا يغيب عن بال الباحث تأثير زمن نشر وقراءة النص الجديد، أو القراءة النقدية للرواية في هذه الحالة تحديدا أيضا.
لقد أشار ناقدان عراقيان الى تأثر رواية "خمسة أصوات" للعراقي غائب طعمة فرمان برواية "ميرامار" للمصري نجيب محفوظ. وعلى الرغم من كون الأخير ليس قليل الشأن في عالم السرد العربي ابتداء، إلا انه بعد نيله جائزة نوبل للآداب عام 1988 وهي أكبر وأهم جائزة عالمية أصبح نجما لامعا، وسلطة ثقافية، تفترض نوعا من التحفظ على الإقتراب منها.
ويبدو حسب تاريخ نشر كتابيهما أن دراستي الناقدين فاضل ثامر وشجاع العاني متأخرتين كثيرا على تأريخ نشر الروايتين. وهو ما يمكن أن يؤدي الى بعض الالتباس، في حالة سؤال التأثر هذا، واقتصاره على هذا الحد، فلم يذهب أي من الناقدين، ولا غيرهما حسب علمي المحدود، الى مقارنة "خمسة أصوات" بـ "ميرامار"، للكشف عن الصفات المشتركة والأخرى المختلفة.
ولكن كليهما أشار الى تأثر الأولى بالثانية، في افتراض لا يؤكد الزمن صحته. يقول الأستاذ فاضل ثامر: "إن فرمان لم يكن بعيدا عن الإفادة من تجارب روائية عربية... وبشكل خاص "ميرامار"، فيبدو الجزء الأول من الفقرة ممكناً؛ ليس لأن غائب عاش قسما قليلا من حياته في القاهرة، فالتقى بمحفوظ وآخرين، واشترك في منتديات وحوارات أدبية فحسب، بل لضرورة اطلاع أي مؤلف على نتاجات سابقيه والإفادة منها. في حين لا يقدم الجزء الثاني من الفقرة ما يدل على ذلك التأثر، بل يشير الى الاشتراك في الخصوصية البنائية للروايتين.
ويقول الدكتور شجاع العاني:"لقد صادف صدور خمسة أصوات، صدور رواية ميرامار للكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ في العام نفسه، ومن المحتمل أن تكون هذه الرواية أحد الدوافع وراء كتابة خمسة أصوات"، فيلاحظ على قوله الانتباه الى العلاقة الزمنية بين الروايتين، في صدور كلتيهما في سنة واحدة، مما يؤدي الى نتيجة مختلفة عن تلك التي توصل اليها، من خلال:
1. عدم وجود تأريخ نشر بالشهر في الروايتين، فضلا عن الكثير جدا من الكتب المنشورة، إذ يقتصر تأريخ النشر على السنة. وإذ صدرت الروايتان في عام 1967، وبعدم وجود شهر النشر، فلا يتأكد صدور "ميرامار" قبل "خمسة أصوات"، وبالقدر عينه من الاحتمال صدور الأخيرة قبل الأولى.
2. وحتى بافتراض صدور "ميرامار" قبل "خمسة أصوات" بأشهر، فإن ذلك لا يؤكد تأثر فرمان بالشكل الروائي لـ "ميرامار"، وتأليفه "خمسة أصوات" بالشكل عينه؛ لقصر المدة الزمنية.
يمكن أن يفترض ما ورد في كلام الناقدين ريادة نجيب محفوظ لهذا الجنس الروائي، وهي ليست كذلك؛ لوجود نماذج أخرى سابقة على "خمسة أصوات" و"ميرامار"، اثنتان منهما نالتا من الشهرة ما تستحقان، والثالثة نالها من عدم الشهرة ما هو مجحف بحقها.
وللأسباب - المتعلقة بغائب طعمة فرمان - السابقة الذكر، لا يستبعد اطلاعه على:
1. الصخب والعنف: وليم فوكنر، والتي صدرت ترجمة جبرا ابراهيم جبرا لها سنة 1961. 2. الرجل الذي فقد ظله: فتحي غانم، والتي صدرت عام 1962. 3. رباعية الاسكندرية: لورنس داريل، والتي صدرت ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي لجزأيها الأولين سنة 1962. كما أن النصين الأولين هما المؤسسان لهذا الشكل في الرواية العربية؛ لريادتهما الزمنية، ولإتقانهما الفني.
ومع ذلك فقد قدمت "خمسة أصوات" شكلا جديدا في الرواية العربية، ورياديا في الرواية العراقية، بقصدية التأليف، من خلال:"الإدراك المعماري للعمل. يعني فن الصياغة"، كما ورد في متن الرواية. مما أدى الى اختلافها في كثير من التفاصيل الفنية مع الروايات الأربع المذكورات، من خلال:
-عدد الرواة: في "الصخب والعنف"، و "الرجل الذي فقد ظله"، و"رباعية الاسكندرية" و"ميرامار" أربعة رواة، في حين احتوت "خمسة أصوات" على ستة رواة.
-عدد مرات حكي كل راو: لا يحكي راوي كل من الروايات الثلاث الأول إلا مرة واحدة، وقريب من ذلك حكي رواة "ميرامار"، باستثناء تكرار راويها الأول مرة ثانية فقط. في حين تكرر حكي رواة "خمسة أصوات" كلهم "36" مرة؛ مما أدى الى ميزة أخرى فريدة لها.
-اختلفت مع الروايات السابقة كلها، فجاءت بشيء جديد، من خلال تواتر حكي رواتها بشكل عشوائي، أي إن رواة "خمسة أصوات" الخمسة، لم يظهروا حسب تسلسلهم المنطقي: الأول، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، الخمسة. وإذ تكرر حكي الرواة الخمسة "34" مرة عشوائيا، فان الراوي الموسوم بـ "الخمسة" مرة وبـ "خمسة أصوات" مرة أخرى حكى مرتين، في كل مرة بعد التكرارات العشوائية للرواة الخمسة.
-تختلف مع "الرجل الذي فقد ظله" ومع "رباعية الاسكندرية" وتتشابه مع "الصخب والعنف" و"ميرامار" في وجود المرأة كراوية. ففي الأوليين راويتان، وفي التاليتين لا توجد امرأة راوية.
كما أن الخصوصية الفنية الأخرى التي أدخلتها "الصخب والعنف" الى النص السردي العربي، تلك المتعلقة بطريقة "تيار الوعي"، ظهرت في "خمسة أصوات" بشكل أوضح، وأقرب الى "الرجل الذي فقد ظله" و"رباعية الاسكندرية"، في حين لم تظهر واضحة في "ميرامار".
وبسبب ما سبق فإن احتمال تأثر "خمسة أصوات" بـ "ميرامار" ضعيف جدا الى حد الانتفاء، في حين يكون التأثير الأوضح في "خمسة أصوات" هو تأثير "الصخب والعنف" و "الرجل الذي فقد ظله"، وكذلك تأثير "رباعية الاسكندرية" التي تخلت عن خصوصية مهمة من خصوصيات "الرواية متعددة الرواة"، وهي الحكي بضمير المتكلم، فحكى رواتها بضمير الغائب، كما حكى رواة "خمسة أصوات" بالضمير ذاته. مما يؤدي الى تناقض بين تسمية أجزائها الأربعة بأسماء شخصيات: جوستين، وبلتازار، وماونت أوليف، وكليا، وحكيهم بذلك الضمير، الذي يشير الى استمرار تعلق الراوي الخارجي/ العليم، بأذيال النص، وعدم منح الرواة حريتهم التامة في الحكي، لكن ما يشفع لذلك، في "رباعية الاسكندرية" و "خمسة أصوات"، هو الاعتماد على التبئير، وإحالتها على الشخص الذي يحمل الفصل اسمه.
ومن الجدير بالذكر أن روايتين أخريين صدرتا في العراق، بهذا الشكل الفني، خلال عقد واحد، هما: السفينة: جبرا ابراهيم جبرا، 1970. المبعدون: هشام توفيق الركابي، 1977. كما تثير رواية شمران الياسري "أبو كاطع"، التي صدرت سنة 1972 بأربعة أجزاء، تحمل عناوين مختلفة: 1. الزناد. 2. بلابوش دنيا. 3. غنم الشيوخ. 4. فلوس إحميد، وظلت بدون عنوان كرباعية، إلا الإضافة الى اسم مؤلفها، تثير السؤال عينه. إن رباعية شمران الياسري هي رواية واحدة، بأجزاء متسلسلة، ومن الصعب اعتبار كل جزء منها رواية مستقلة. وسبق لي وأشرت الى التشابه بينها وبين رباعية الإسكندرية، في وحدة الموضوع وعدد الأجزاء، مع الفرق بين عناوين الأولى التي توحي باستقلالية كل جزء، وبين عناوين الثانية التي تشير الى تعدد الرواة، وأهمية الشخصية ودور الراوي.