ادب وفن

معراج ابن عبد اللطيف .. نص مفتوح / محمد علوان جبر

ضوء الصباح ينعكس على الكتلة السمنتية التي تشكل خارطة للجسر المدعم بها، الجسر يدور بدورة بطيئة حتى تكاد تلامس بوابة ملعب الشعب، الذي يبدو من خلال الفسح المتداخلة فيه وكأنه خارج الصورة التي كان عليها، هذا ما بدا واضحا أمامي، وأنا أجتازه بسيارتي، يشبه الشمس التي لامس دفؤها الحياة أسفل الجسر وأعلاه، الجسر يحاذي الملعب بل تكاد بعض هياكله تبدو كأنها ترتمي تحت الكتلة السمنتية.
حالما انسابت السيارة بسلاسة نحو الجانب الآخر من الجسر، تحولت حزم الضوء الهابطة من السماء الى الجانب الأيسر والخلفي من السيارة، استمر الأمر، حتى وأنا أخترق مناطق ظل تفاوتت كثافتها بمدى اقترابها من الجدران التي تتصاعد تارة وتنخفض تارة أخرى.. فكان الضوء يمر على زجاج السيارة بتفاوت أيضا ولم تقطعه الا المساحة القليلة التي تفصلني عن ساحة الاندلس..
عبرت اشارة ضوئية لا علاقة لها بما يجري حولها، كانت تشتعل بألوانها، الأصفر والأخضر والأحمر.. تنطفئ وتشتعل مرارا، دون أن ينتبه اليها أحد، مرت يافطات كبيرة تشير الى معاهد ومستشفيات ومختبرات مركزية، والى اليمين يافطة مستشفى كبيرة وفي المقابل تماما، أمام بوابة المستشفى، اصطف شرطة وحرس وهم يشيرون الى السيارات بأن تمر بسرعة وأن لا تتوقف، مع اشارات أيديهم، ثمة أصوات متصلة لصافرات تنطلق من أفواههم. لم يتحرك صف السيارات بانتظار الاشارة الضوئية لساحة الأندلس، ثم تحول الصف الى ثلاثة صفوف، الأمر الذي جعل الشمس تخترق الزجاجة الأمامية مباشرة على وجهي، وأنا أركن السيارة أمام بوابة اتحاد الأدباء التي تقابل المستشفى الكبيرة، لفت انتباهي وقوف "حسين عبد اللطيف" قرب جدار اتحاد الأدباء، يدير ظهره الى المبنى ويطالع الجانب الآخر من الشارع، كأنه يراقب ما يفعله رجال الشرطة من حركات تترافق مع صفير مزعج يتداخل مع الضجيج المنبعث من حركة السيارات في المسارين السريعين والمتعاكسين.. مسار نحو ساحة الاندلس، ومسار نحو الجسر السمنتي الملاصق لملعب الشعب. سلمت عليه.. ابتسم وهو يمد يدا لينة كابتسامته المرسومة على وجهه، بدا عليه التعب والشحوب كثيرا "على فوديه شعرات بيض نافرة وحلاقة ذقنه قاصرة غير مكتملة، على خده الأسمر الممتلئ أكثر من جرح، كان يرتدي قميصا عريضا مقلما بكمين قصيرين"* ... أشار الى يافطة سوداء كانت خلفه تماما علقت على جدار اتحاد الأدباء، مكتوب عليها كلمات نعي شاعر اسمه "حسين عبد اللطيف" وباللون الأصفر الذي تحول الى لون صارخ وهو يتمدد على المساحة الصغيرة لقطعة القماش السوداء.
ــ ما هذا ....؟، سألته وأنا أشير الى اليافطة
ــ .. انه نعي.
قلت له وأنا أغالب ضحكة فشلت في كبتها.. فانطلقت مجلجلة
ــ لكن.. متى مت يا حسين عبد اللطيف؟... هل أنت...؟
ــ أجل عزيزي... لقد مت منذ أيام، لكني وجدت نفسي اليوم دون أن أعرف كيف، أمام هذه البوابة، منذ الفجر وأنا انتظر هنا لأرى أحدا من أصدقائي، فشغلت نفسي بمطالعة اليافطة، ثم ضحك وهو يقول لي:"حقا فرحت حينما قرأت اليافطة التي تحمل نعيي، رغم جمود عبارات النعي.. أتعلم أني لم أكتب نعيا في حياتي الا مرة واحدة"؟، قاطعته قلت أتذكره:" ليس أن يحملك فجأة هذا القارب"*، قال:" بالضبط"، ثم أضاف:"لهذا توقعت أن يكون نعيي مبهرا كأحلامي... أعدت قراءة النعي لمرات.. الكلمات هذه.. آه كم تبدو جامدة وبلا معنى.. "الذكر الطيب"... واصل ضحكه وأعاد العبارة:"ماذا تعني"؟، لم أجبه.. لكنه أمسك بيدي وقال:"بوابة الاتحاد مقفلة.. هل ترافقني لنجلس في مقهى ما"؟.. أشرت اليه ناحية سيارتي.. لكنه رفض بشكل قاطع...
ــ كلا دعنا نتسكع قليلا.. فأنا ومنذ قرر الأطباء بتر جزء من قدمي محروم من متعة المتع "التسكع"، ألم تكتب أنت يومها ما يشير الى اصابتي بجلطة.. واني راقد في المستشفى.. لازلت احتفظ بمنشورك..."؟، بحث في كيس صغير يحمله، أخرج منه قصاصة جريدة قديمة، بان عنوانها واضحا... هل تريد أن أقرأه لك؟.. أشرت اليه بالنفي، فاكتفى بقراءة العنوان......
الشاعر حسين عبد اللطيف... في غرفة الانعاش...
كان هذا قبل أربعة أشهر... أفتخر بما كتبته عزيزي، أنت حقا صديق وفي، اليوم أنا أعلنها أمامك.. بعد أن مت بهذا الصبر.. لست بنادم على شيء.. "لقد أطل علي الموت من أربعين نافذة"، كما قالها اراغون في يوم ما.
وصلنا الى مقهى مكتوب على زجاجها "كوفي شوب"، ضحك حسين عبد اللطيف وأنا أشير اليه ناحية الزاوية المعتمة في المقهى التي تديرها نسوة يرتدين ملابس ضيقة.. ويظهرن الكثير من مفاتنهن. بعضهن يرتدين الشال على هيئة حجاب.. ضحك كثيرا، كنت أعرف لماذا يضحك.. لأن النادلة سألته عن نوع التبغ الذي يحب أن يوضع في "النركيلة" التي يريد... وهو الذي لم يضع سيكارة في فمه منذ عرفته... اعتذر بأدب جم "وأشار لي أن نغادر المكان، واقترح مقهى على الرصيف..
ــ دعني أمتع ناظري بشوارع بغداد، ربما هي المرة الأخيرة التي أرى فيها بغداد ولكن "ليس ثمة حيرة أو نكوص بين رغبة الشاعر بمراقبة المارة الذين لا يستطيع الا أن يكون واحدا منهم "رغم اني أحن الى البصرة التي ترافقني في شعري وحياتي".
لقد زارني بعد نشرك لخبر الجلطة التي لم تمتني.. "كانت الثانية وقيل اني معرض لجلطة أخرى"... قلت لك زارني أصدقاء كثر أولهم لؤي حمزه عباس ومحمد خضير وكاظم الحجاج وعبد السادة البصري.. وآخرون.. المهم خرجت بإصبعين مبتورين وبقايا جلطة مرت ودخان جلطة قادمة... قاطعته:
ــ حسين... من أنت؟
مر وقت طويل قبل أن نعثر على مقهى تطل على شارع النضال باتجاه المسرح الوطني.. بمكان ليس ببعيد عن مقر الحزب الشيوعي العراقي... طلبنا شايا واقترحت عليه قبل أن نشرب الشاي أن نوصي الينا بطعام خفيف.. لكنه وخزني بكلمة اذهلتني...
ــ عزيزي.... "الأموات لا يأكلون ولا يشربون انهم يجيدون شيئا واحدا وهو الاصغاء قبل ان يعودوا من حيث أتوا، انها محطات لا يمكننا أن نحيد عنها إلا بالموت"... ثم بدأ يردد بصوت رخيم وعيناه ساهمتان تحدقان في الفراغ ...
"مصغيا الى الطيور تغني على الأشجار الندية
مرت علي مئة عام منذ الآن، لكني كنت خلالها ميتا، وثمة شخص آخر غيري يصغي اليها".
انها لشاعر ألماني قالها قبلي.. ورددتها بعده بأشكال أخرى، رددناها معا، وعشناها معا، كنت أنا أصغي الى غناء الطيور على نخيل البصرة، وفيما بدأت رحلتي واصل آخرون سماع الانشودة ذاتها في أماكن أخرى مختلفة.
ــ حسين.. هل حقا أنت الذي بقيت عمرك على الطرقات تراقب المارة..؟
ــ أجل ...
وبدأ يردد فيما كنا نسير بجانب تمثال بغداد، تلك المرأة التي تجلس بشموخ وهي تضع ساقا على ساق، فيما هي تدير ظهرها الى العالم وعيناها مركزتان على دجلة...
"ها نحن نجوب أقاليم المدن، بورود من صنع الأيدي، ومصابيح، ها نحن على الأبواب.. نصيح.. الريح... الريح... أطبقنا الأيدي، وما فتحنا الأيدي، ما من شيء في الأيدي، قادتنا الريح الى الريح"
فيما أنا أتابع المشهد، ما بين التمثال وشجرة السرو العملاقة.. تواصل الصوت الهادئ الذي أعرف.. لقد قضي الأمر، ولا سبيل للاستدارة أو الرجوع، ولكنني مع ذلك أريد أن أعرف وجهة نظرك بي، وأنا أتحطم كأنية.. لقد دفع الحساب سلفا.. أيها القبر.. كن زقورة يا رياح برلين كوني رقيقة...
تلفت فلم أجد ابن عبد اللطيف... لكني سمعت همسا من امرأة التمثال.. وهي تتحدث عن "أمير من أور"، زار الساحة وحيدا منذ الفجر واختفى دون أن يدرك أحدا كيف اختفى.
حينما وصلت الى بوابة الاتحاد... وقفت قرب لافتة النعي وأنا أتلفت في كل الاتجاهات... لم أجد له أثرا، لكني وجدت على الأرض، في المكان الذي كان يقف فيه، كيسا ورقيا محشوا الى آخره بأوراق مختلفة الأحجام والألوان، مكتوب على ظهره:
"هلا سمحت لي بإطفاء السراج
فراشتي العزيزة
أريد أن أخلد إلى النوم"..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقاطع من حوار طويل أجراه القاص والروائي لؤي حمزه عباس مع الشاعر حسين عبد اللطيف.