ادب وفن

خزانة السرديات والعودة للأصل / ناجح المعموري

الأصل حلم، والعودة إليه تجديد التعرف الأول. والتكوين الذي ارتبط به يحيى الشيخ، لأن أماكنه سليلة الحلم الأول/ دلمون، مكان تعايشت فيه القوى والتضادات، كما في الأسطورة السومرية. اختيار دلمون الرحم، مدفناً نوع من النواميس الأبدية والعودة إليها "هل يبعث الله فينا ما كان في آبائنا"؟ ناموس الأب في حلم سكن الرحم، هو حلم الابن. ويشف حلم الأب الاعتباطي التحقق عن علاقة الصابئة المندائية مع أساطير الخلق وطقوس التكوين الأولى.
التي اعتمدوها وصاغوها مجوهرات، لأماكن لم تكن بعيدة عن دلمون الأصل . هو والقرين يعيشان في جسد واحد "قطبان متنافران، مرة يكون هو العقل وأنا القلب، ومرة يكون هو الجسد وأنا الروح... ومرات لا نكون شيئاً ذا قيمة، قضيت عاماً أتجول في الشرق. زرت البحرين ولم اهتد الى قبر أبي، فصليت على كل القبور. رحت الى قطر والأمارات، وعمان التي أحبها. أنا دائماً أعود الى الماضي، لكني لا اعثر عليه، لأنه لا يبقى في مكانه، يتركه ويسعى يلاحقني ويختل خلفي".
تشغله مرويات الماضي، الماضي بعمقه بعيد الغور الذي يصل إلى عتبات البدء والتكوين، وهذا ما لم يغفله يحيى الشيخ. كل الماضي متحرك، متزاحم مع حاضر أكثر قسوة. عودته للحظات القديمة المرويّة كثيراً، هو نوع من الحنين ـ كما قلت ـ والحلم، ويحيى الشيخ يتعرّف على ذاتيته عبر الحلم واستمراره. ولأن الماضي مرويات فهو تاريخ لا تنفك علاقته بالتاريخ واللوذ به والتعايش وإياه، من هنا تتكرر دائماً ابتكارات لغته الاستعارية، لأنه منتج صورة، والعلاقة البلاغية بينّة بين الاستعارة والبلاغة. يحيى حتى في سردياته يرسم صورته، وصورنا، صور ماضيه الذي يستدعيه ليتحاور وإياه. زيارته للبحرين مثل، لهذا الحوار، لكنه لم يهتد الى قبر أبيه الذي اختار دلمون وطنه الأبدي، أو كأنه يبصم على العلاقة التي مازالت ممتدة مع الأجداد وحبل سرتهم موروث منذ لحظة دلمون، لحظة تاريخ حاضرة، مع رماد العمر، وسط كف يده. هنا التأكيد الأكثر دلالة على ما قلناه أكثر من مرة، والشيخ ، كرره مراراً دلالة على الحضور الحيوي للفنان وتراكم الرماد، لا بسبب الخيبة أو الفشل ـ هذا ما اعتقده ـ وإنما حلمه بانبثاق الفينيق وتحقق انبعاث جديد. هذا ما يصل إليه المتلقي، منذ لحظة المفاجأة الأولى، محفزة في تكررها، حتى ظلت ثلاثة وعشرون مكاناً، هي ارتحالات الفنان يحيى الشيخ، وهي مفتوحة على احتمالات أخرى وجديدة، هذا تحققه ممكن، فما هو صعب ومعقد ومستحيل لدى الأخر، سهل، وممكن القبول به ومزاولته من قبل يحيى الشيخ، لأنه يعرف جيداً وجود حبل سري مشترك بين الأصل والآتي أو التابع؛ يمكن الإشارة لهذا الأنموذج بالتحول الديني نحو اليسوعية والصابئة اقرب الديانات الى اليسوعية، لأن يحيى هو المعمد للسيد المسيح، والتقارب بين الديانتين مكشوف عنه. من خلال الماء ومزاولة طقس التعميد، بوصفه أحد أهم طقوس الإعلان عن الحياة والعلاقة معها. وإشارات واضحة عن هذا التشارك والثنائية في الحياة طفلاً وشاباً ومنتمياً حتى عرف تفاصيل التضحية التي ظلت من حصته/ نصيبه "أنا الفادي" انه مماثل يسوعي/ هذا ما اعتقده واندفع نحوه، لكنه لم يستطع اختزال تضحية الكائن الى الأبد. عبر فعلته الأولى مثل يسوع، لكني أعتقد الفادي في شخصية الفنان يحيى الشيخ تعبير مجازي، يفضي نحو اتساع مساحات الملاحقة والمطاردة والنفي المستمر، الذي لم يقدر على محو الحي واليقظ في أعماقه. انه أنموذج تشكل عبر كثير من الارتحال والغيابات، والاختفاء والسكون. انه فاد بالمفهوم الاجتماعي الذي كان وظل بمحاولاته لاختصار القرابين بواسطة الفرد، الذاكرة يقظة وسردياتها فاعلة، تحضر وتمارس استعادة للحظات ضاغطة عندما تتحرك بتأثيرات آنية جديدة، وتكررت الإشارة لذلك في السيرة الذاتية واليوميات "لأول مرة يحتاج ماضي حاضري بهذه القوة. هل عبر ذلك البستان؟ بستان الذاكرة الذي على تخومها، وهو يحمل شيئا من البقايا. أشكال أثنية، لحاء شجر متغضن/ ولأن يحيى الشيخ مثار نفسياً بالنهايات، فانه يستحضر البدايات ويحفزه نوع من الحنين إليها: أنت تقلقك النهايات وتخاف صورتها/ الأزمنة متحركة بهدوء مثل نهر دجلة وأماكن جديدة تأتي، الجدل ملحوظ، لأن الزمان حاضر في المكان الذي لا يكون إلا عبر الزمان "كان رأسي يتذبذب بين شيء يفوت وشيء يأتي، مثل رقاص ساعة تحركه قوة فناء أزلية".
تلميحاته المتكررة عن الأماكن الكثيرة، استدعاء ثقافي وهوياتي مهجن دار به الزمان، وغادر واحداً بعد الآخر، عبر زمن طويل جداً، لكن "المكان ضيق والزمان قصير"، لذا اختزل كثيراً من التفاصيل التي لم يشأ أن نتعرف عليها "لا وقت للتفكير الطويل في مفترق الطرق"، وإقصاؤه عن الديانة المندائية بعد زواجه من مسيحية في الكنيسة، ينطوي على طرد من الوطن. ويعني به "اللطلاطة" المكان الأول/ البدئي الذي تعرف فيه على طقوس الماء. هذا قرار المعاقبة الذي أصدرته الجماعة... لكن يحيى ظل مزدوج الديانة والمندائية مهيمنة ثقافياً ولم تتحول رماداً، إما المسيحية، فقد استثمر وحداتها المتجاورة مع المندائية، وهي معروفة ولعل أهمها التعميد الذي يمنح الكائن لحظة نزول للرحم ومغادرته مولوداً مباركاً بالطهارة والنقاوة، وهكذا يظل الكائن في دورته بالعلاقة مع الماء.
ان مثقفاً مبدعاً مثل يحيى الشيخ ـ مثلما عرفتنا عليه سيرة الرماد يتعامل مع الدين بوصفه جزءا من نظام ثقافي عام، لا يخسر منه سوى ممارسته الجمعية التي بإمكان هذا الأنموذج استحضارها تخيلياً.
انشغل الفنان يحيى الشيخ بقضية الموت الأزلية، الحاضرة بقوة في شفاهيات وسرديات ما زالت حاضرة ومهيمنة بما يغذيها من تخيلات جديدة. الموت قضية انطولوجية حاضرة بقسوة وهو مثلما قالت الشاعرة أمل الجبوري عقوبة الله القاسية، التي تعرف عليها جلجامش وهو يرى صديقه متعفناً والديدان تفرُ من انفه وفمه وعينيه. لحظتئذ أدرك ما يعنيه الموت وما يفعله في الكائن. أما يحيى الشيخ فقد عرفه عبر كائن آخر، كلبه المتعايش وإياه "يبدو كلبه من بعيد كأن له أربع عيون.... كان ينظر في عيني طويلاً ويكاد ينطق، وكنت افعل بالمثل. منه تعلمت التحديق بالأشياء وابتلاع الكلام. قتل غيلة في صباح يوم طفولي".
لم يفهم زمن طفولته سبب مقتل الكلب "دريهم" لكنه أدرك لماذا يقتل الإنسان لاحقاً؟ ظل الراوي يحمل أثراً قوياً بسبب مقتل الكلب الذي لم يره ميتاً، لأن القاتل ألقاه في النهر "اغتياله فتح عمري بوجه الموت، الموت الذي يخفي الأحياء، الى الأبد، بعد واحد وستين عاماً من ذلك اليوم مات "القاتل" انه من عمومتي، ذهبت الى مراسيم دفنه، وهو في قبره، قبل أن يهيلوا التراب عليه، سألته: لم قتلت الكلب؟ لم أسمع اجابته، فغادرت المقبرة بلا صلاة.
القصدية بقتل الكائن، كلباً كان أم أنسانا هو اغتيال وهذا من فيض ثقافة الانتماء وتبلور الوعي المنقذ، الذي خلف وراءه رمادا وبقايا رائحة احتراق لم يتوقف، بل ظل مستمراً وكلما يلتفت يحيى الشيخ ـ قليلاً ـ إلى الوراء يلمح في الأفق دخان اشارة لاكتمال الاحتراق وانتظار الرماد الباقي، لكنه لم يشعر باليأس والإحباط، لأنه موقن وواثق بان الصاعد من الرماد، هو زمن جديد، له أساطيره المغايرة تماماً.
ولي عودة ثانية حول الميثولوجيا الضاجة في "سيرة رماد" الفنان المبدع يحيى الشيخ.