ادب وفن

محمد الجزائري.. أكتب.. لأراك* / ناظم السعود

محمد الجزائري كان من النخبة المثقفة في بلادنا ووشم الحياة العراقية بمتون معرفية شديدة التأثير والخصوصية.. كما انه تميّز بالتنوّع الثقافي ان في حياته أم أدواره أم صراعاته!
ولو شاء كاتب أو راصد أن يعطي ايجازا ملخّصا لسيرة ثرية كالتي سطّرها الجزائري فوق خريطة الثقافة العراقية والعربية لوجد نفسه في مهمة عسيرة جدا، اذ كيف يكون الالمام بنصف قرن من الكتابة والابداع والنتاج الموسوعي؟.. انه منذ منتصف الخمسينيات في القرن الماضي يسهم بقوة وفرادة في الحياة الثقافية وعلى مستويات عدة، فهو من مؤسسي نقابة الصحفيين العراقيين ولعب أدوارا قيادية في الصحف والمجلات القائمة كما أسّس مجلات ومطبوعات متخصّصة،
وهو أيضا شارك في تأسيس اتحاد الأدباء ونشط في ادارته، وتولّى مناصب رئيسة في مختلف دوراته، ولا يمكن أن يذكر النقد العراقي من دون أن يأتي اسم الجزائري ضمن أسماء الصف الأول بحكم الفاعلية النقدية المدهشة التي أشّرها أو رصدها أو شاكسها في دراساته وكتبه وحواراته، في الشعر/ القصة/ الرواية/ المسرحية..
أما التشكيل العراقي فلن ينسى جهود الجزائري في ترصين الفنون التشكيلية ونقدها والاحتفاء بالمتميز منها وتوصيله الى مديات ومحافل قريبة وبعيدة، كما أن الأمانة التأريخية تدفعنا الى أن نذكر أن الجزائري كان وراء صدور أهم مجلة تشكيلية في العراق والدول العربية، ونعني بها مجلة "الرواق"، التي تم اغلاقها بعد عشرة أعداد فريدة.
السينما العراقية شهدت على يديّ الجزائري نتاجات فلمية، "لا سيّما من النمط التسجيلي والوثائقي"، وقد ذاع صيتها محلّيا ودولّيا حتى كونّت "مكتبة سينمية" موسومة باسمه. والغرابة انني وأنا أستعيد اقباسا من سيرة عزيزة على الثقافة العراقية أكتبها صاغرا ضمن محمولات الماضي و"أخواته"، انه مثل كثير من المبدعين عاش حياة صاخبة وتكالبات ممضّة دفعته الى الهجرة قسرا، وان يتم تجميد مواهبه في خانات القرار الاداري وردهات النفس الممسوسة.. لنقرأ ما كتبه الجزائري عن تلك الفترة:"بعد ان تمّ غلق مجلة فنون عام 1986 وتجميدي كرئيس لتحريرها بدعوى انها مجلة معارضة فاعتكفت على مدى ستة عشر عاما من دون عمل وظيفي، هاجرت بعدها الى بلد عربي مجاور كما فعل كثير غيري ممن اكتظت بهم المنافي".
وهذا الذي ذكره الجزائري يعد شيئا يسيرا مما يعرفه أو يشهد به جل المثقفين العراقيين ممن عاشوا المعاناة يوميا، كما ان كاتب السطور تابع الحالة المجحفة التي حشر فيها الجزائري وكانت سببا للاندفاع في متاهات الهجرة، كما أوضح ذلك أكثر من مرة، ويحزنني أن أقول انني افتقدت كثيرا في العقد الأخير حيوية وشخصية وابداعات محمد الجزائري التي كان ينفثها في مختلف شرايين الثقافة العراقية ولم تكن (الهجرة) هي السبب الوحيد اذ ان كثيرا من المبدعين العراقيين المبتلين بنار الاغتراب ظلّت اخبارهم وابداعاتهم تصلنا بشكل أو بآخر وقد يكون بعضهم أقدم زمنيا من الجزائري في محنة الغربة غير انهم لم يتركوا مناسبة دون أن يكسروا ذلك الطوق الجغرافي الذي يحول بينهم وبين بلدهم وجمهورهم وتواصلهم ولنا في الناقد الرصين ياسين النصير خير مثال على ما نقول فهو دائب التواجد الثقافي ان كان في حضوره الشخصي للمهرجانات الثقافية وآخرها كان حضوره معنا في مهرجان المربد الأخير بالبصرة والدورات السابقة وقد شارك بفاعلية في الحلقات والانشطة المرافقة، ويمكن ايراد اسماء اخرى في السياق ذاته لماذا أقول كل ذلك؟.. أقولها بحزن لأن محمد الجزائري منذ رحيله الاغترابي أواخر التسعينات وهو يحكم "الاعتكاف" الذي انتهجه صاغرا في بغداد، وكأنه لم يزل في خضم المعاناة والاقصاء، وقد كنت شخصّيا أحاول وبجهد فردي ان اتسقّط اخباره وجديده ولكنني لم أفلح للآن في معرفة الكثير مما ينتجه أو ينشط فيه مع يقيني الكبير انه لن يهدأ او يتساكن مع شعلة الابداع التي تستعر في داخله، ولكن المشكلة ظلّت في ما أحسب في "داخله" اذ لم يزل يعاني الكثير مما دبّر له هنا ودفعه مجبرا الى هناك، وهذا المشكل كان له أثره في تحجيم دائرة الابداع "أو الذي يصلنا منه في الأقل".
ـــــــــــــــــــــــ
* عن جريدة "المؤتمر"
5 حزيران 2014