ادب وفن

عبد العظيم فنجان.. الشاعر قد يفكر مثل شجرة! / علي حسن الفواز

شاعر ينفر عن الواقع ليمنح اللغة أجنحة ودخانا ويوهم نفسه بالطيران. لعبته أن يغامر بحثا عن معنى لوجوده داخل اللغة، تتلبسه المغامرة بوصفها حلما، ويتلبسه الحلم بوصفه هاجسا للحرية، وتوغلا في استعادة اللذة عبر القصيدة، تلك التي تأخذ به الى أقصى الغياب وأدنى الحضور، حدّ أن اللغة تكون فيها أكثر تحولا، وأكثر تعريا بوصفها جسدا وطبيعة أو قفصا أو موكبا أو أغنية أو شرطيا أو تاريخا.
عبد العظيم فنجان يشعر بوطأة ساحرة لتلك القصيدة التي يكتبها، يتحسس ما فيها من النفور والسحر والتشهي، يشاطرها التفاصيل والسرائر، ويستعين بها للخلاص مثل أي طهراني مسكون بالاعتراف..
في كتابه الشعري "أفكر مثل شجرة"، الصادر عن منشورات الجمل يتلبّس عبد العظيم فنجان قناع الصوفي، والحلولي ويبتكر للغة ثقوبا يتسلل من خلالها الى شساعة الوجود الذي يتخيله، والذي يستعيد عبره صور موتاه وكنوزه الخبيئة، إذ لا يتمرأى أمامنا سوى وجه الشاعر الشاحب وهو يتفرس في تلك الصور المستعادة، بوصفها المرايا أو الطبيعة التي تصلح لعزلته ومكوثه، وتعينه على البحث عن وجوه أخرى كانت تشبهه، وعن طبيعة يؤنسنها، لكنه لم يطمئن اليها أيضا، فينفر هاربا نحو اللغة على طريقة هايدغر، حيث فكرة البيت والأنثى ووهم اللذة والمقبرة..
عتبة المجموعة تبدأ من الإهداء الى موتاه "عقيل علي وسركون بولص" اللذين يشبهانه، ومن الإستهلال العرفاني لـ "حيدر الآملي" حيث الرؤيا التي تجلبه للحضور والغياب، وهي ثنائية قارّة في أغلب مسارد الكتاب الشعري..
هذه العتبات تمثل إضاءة لحدس الشاعر وهو يضع الكتابة أمام لعبة التلّمس، وأمام لذة بحث الحلولي عن أناه في المريد، هذا المريد الذي تمثله الأنا أيضا، بوصفها خلاصة للوجود والمعنى والفكرة والإشباع، ويمثله الغائب أيضا بوصفه السر الدافع الى البحث عن الخضور..
عبد العظيم شاعر الأنا المتعالية، الأنا التي قد "تفكر مثل شجرة" والتي تحاول عبر هذا التفكير استجلاب اللذة الى الجسد عبر اللغة، ووضع العالم داخل اللغة.. هذه اللعبة تجعله أكثر حدسا بحمولات اللغة، وأكثر جرأة في مواجهة ما يتساقط منها لاكتشاف تفاصيل وجوده، ولاكتشاف ذاته وهي متورطة في التحوّل والتعري، وفي رؤية ما يحيطها من رعب وتوحش.
هو يكتب قصيدته الشخصية، قصيدة المزاج، قصيدة الرؤيا، إذ يضع كل شيء في لعبة اللغة: جسده/ الأضحية بالمعنى الحلولي، وتاريخه المنهك بالأسفار والخيبات، ورؤيته التي ترى ما لا يراه الآخرون! والتي تبدو وكأنها أمام مفارقات لا تنتهي، تبدأ من التماهي مع شيفرة الشجرة، تلك التي توحي بفكرة العلو، والأفق والحرية، والفكر الذي يهجس به، ويفقده شرطه الأرضي، وينفر إلى العلو، وتنتهي عند سرائر التأمل والاستغراق، حيث تتلبسه روح الصوفي، الروح التي تختصر العالم في رؤياه ونبوءته، وهذا ما ينعكس عبر القصائد القصار المكثفة التي حفل بها الكتاب، إذ هي قصائد رؤيا، قصائد افتتاح وحضور لخفايا عالم يساكنه الشاعر باستعادة لذة ما يمكن أن يحمله أو يبوح به..
أقصى ما أستطيع حمل،
هو يدي.
الأيام التي تجرّ وراءها سلسلة طويلة من الأيام،
وصلت..
يسقط الليل على المنزل، ليُثبت لنا أن له نوافذ..
من فرط العزلة سمعت ضجيج أصابعي:
جاورت نوافذ يحجبني العراءُ عن قضبانها.
من فرط العزلة:
العشب الأبيض نبت على لحية الحديقة،
وكتفي صار سياجا..
قصائد الكتاب تستدعي قراءة متأنية، ليس للبحث عن حمولات التجربة، بقدر ما هو تلمّس خصوصية كتابة الأنموذج الشعري المفارق الذي يطلقه عبد العظيم فنجان، بوصفه أنموذجه الشخصي، الذي ينفتح به على مقاربات وإحالات ومرجعيات يمتزج فيها اليومي والهامشي مع الإسطوري والصوفي، إذ يخرج به عن أي توصيف، وأي تصميم، لأن القصيدة التي يكتبها كما يقول فنجان: قصيدة هواجس داخلية، وبقدر ما نراها أيضا ستكون هواجس وجودية تتكشف من خلالها أسفار الوجع والفقدان والإحساس الفاجع بالخيبة، وهذا ما يُفقد القصيدة توصيف البعض لها بأنها قصيدة صافية، لأن الصفاء هنا يفتقد توصيفه أمام قصيدة ضاجة بالحياة، قصائد الباحث عن ذاته، عن المعنى المفقود، معنى الخلود والفردوس والإشباع، إذ يصطنع لنفسه في هذه السيرة صورة مضادة لكلكامش السومري الذي يعرفه، والذي يشاطره لعبة الرحيل والقتال والحلم، والرؤيا، لكنه يفارقه في كتمان الرؤيا، وفي الذهاب إلى التورية خلف ليونة وسخرية ومفارقة الكتابة الشعرية، حيث يطلق استعاراته لتكون قاموسه وفأسه وسؤاله، وشيفراته الأكثر تعبيرا عن قلقه الوجودي، وعن موت خلّه الذي يخبئه في قصيدته ومراياه، ذلك الخلّ الذي يتقنع بفكرة السكنى، وبهاجس القرين، والأنثى والغائب..
كنت أسكن بدني،
لا أوسع منه بيتا في العالم،
فهو بدني، وأنا أعرفه غرفة غرفة..
بإمكاني أن أتجول بين مراياه،
بصبحة أشباح أبتكرهم، كما يبتكر الطفل العابه..
تعيدنا قصائد عبد العظيم فنجان الى سؤال الشعر وإجناسته، وكيف يمكن للشاعر أن يرسم قصيدته، وأن يمنحها شغفه ورؤياه، أو أن يجعلها تشبهه، وأن يمكنها أن تكون مثالا لطبيعته الخالصة، ودثار عزلته، وأن يصطنع لها مجالا توصيفيا تتغذى فيه القيمة الشعرية من خلال طاقة الكلمات والصور، وليس من خلال جنوسة النص، إذ تتسع القصيدة لجملة النثر الواصفة مع جملة الشعر المكثفة. هذا الاتساع يهب بنية القصيدة تعاليا وتدفقا، ينخرط فيه الشاعر لاعبا ماهرا في اصطياد المعنى وفي فك العزلة لصالح التآلف والتلذذ مع موجودات الطبيعة..
قصيدة "النص" قد تكون مقترحا توصيفيا لقراءتها، حيث تبدو الوظيفة الشعرية قريبة من الوظيفة التفاعلية كما هي عند ياكوبسن، وحيث يكون هذا النص أكثر تحريضا على الإنوجاد في بنية مفتوحة تتقبل الإضافة والمحو، وتتقبل الاتساع والتكثيف دونما حرج توصيفي.
بهذا الاقتراح القرائي يمكن أن نموضع أنموذج عبد العظيم فنجان أمام لعبة الشاعر الفائقة في السيطرة على اللغة، وفي توسيع ينابيعها الخفية، كما يقول أنسي الحاج، تلك التي يستعيد فيها الأرواح العظيمة، ويوهب ذاته النافرة إحساسا متعاليا بقدرة حواسها على اكتشاف المزيد من الغامض والمجهول، وعلى دفع اللغة ذاتها لاستكناه روح السحر في الوجود بوصف هذه اللغة بيتا للوجود..
الكثافة السردية في القصائد لم تكبت مزاجها الشعري الصاخب، بل أن القصائد بدت وكأنها طقوسه الضاجة بشهوة الاعتراف والاقتراب، وأن مادة التوصيف في النثر أطلقت العنان للصورة الشعرية لتكون لعبة مفتوحة في استدعاء الكثير من التفاصيل والأفكار والهواجس والفضائح، وبما يُسبغ عليها نزوعا لا حدود لها، والتي ستجرّ وراءها عالما تنطلق فيها ذات الشاعر النافرة بحثا عن المزيد من أوهام كلكامش، وسخريات أنكيدو والأصدقاء الشعراء- سركون بولص، أحمد الباقري، حسين علي يونس- الذين تركهم العالم يبحثون عن معنى هو ذاته العشب الذي أكلته الأفعى الأسطورية…
في بداية الأغنية يخرج رجلٌ من بيته، باحثا عن شيء،
على ضوء المغامرة الذي يضيء له الطريق،
سيقطع مسافاتِ أطول من حاجته الثمينة: أثقل حتى من خطواته
التي تحقق للخرائط شخصيتها، وللغبار كينونته، إذ يلتصق على وجهه كالقناع. في نهاية الأغنية، ودون أن يعرف، يجد الرجل نفسه أخيرا في نفس البيت، وجها لوجه مع الشيء الذي خرج باحثا عنه طوال حياته..