ادب وفن

« كاهنات معبد أور».. المسجل والمخيل / خليل مزهر الغالبي

رواية " كاهنات معبد اور " للشاعرة رسمية محيبس هي كتابة عن سيرتها الذاتية وبمثول متماهٍ مع رؤاها الفكرية والأدبية وتابعها من قرارات ازاء البعض الضاغط للتصريح والكشف عن مكنونها، وهذا النوع من الرواية يتعمد فيه الراوي تسجيل أحداث حياته بالمعانقة مع خاصتها الإنسانية ازاء الأشياء، ويجري التركيز على المجال الذي تعكس فيه الشخصية المتكلمة كينونتها الخاصة ومتعلقاتها.
ورواية "كاهنات معبد أور" من عائلة المحكيات الحقيقية وفق تشكيل سردي تخيلي وذلك لطبيعة ساردها الشاعرة، لتذهب كما ذهب اليه المفكر والروائي الفرنسي - ج ب سارتر - بقوله "الحقيقة لا يمكن أن أقولها إلا في عمل تخيلي" مع بقاء دور الذاكرة السيرية المنتشر والمزاحم لذات المخيال في مروراته الادبية المعبرة، ومنه السرد الحريص على اضفاء الجمال في التدوين الحكائي وبما يصنع اللاذ والقبول للمتلقي، ومن خلال الابتعاد عن كثرة المثول السيري وعدم المطابقة لها سرديا، ومنه تحقيقه لأسباب ابداع هذا المنتج الأدبي كما في رواية الشاعرة رسمية محيبس" هذه.
ونذكر هنا أول كتاب السيرة الذاتية في الأدب العربي، هو العلم الأدبي "طه حسين" في مؤلفه السيري " الأيام " عام 1939، ويسعى الكاتب في رواية سيرة حياته الى إنتخاب حلقات معيّنة مهمة وذات ضرورة قصوى من أحداث ومواقف كما في حرص الشاعرة الروائية رسمية محيبس "في رسمها الخاص وانتقائها العام وهي تحاور كاهنات معبد أور وتكشف خفاياها الصعبة والأليمة، وكان للزمكانية ذلك الرابط المقترن بالأحداث حيث طفولة الكاتبة ونشأتها وأيام دراستها، ومنها العلاقة الحنونة المتفردة مع جدتها، مع ذكر الشخوص المقربين لها مثل زاير علاوي،و عائلة "رزاق مطر"ومن اولاده " علاء اللامي "وما قدمت العائلة من أبناء منفيين عن الوطن وآخرين بين قتيل في حرب النظام وآخر تم اعدامه من قبل أزلام النظام المقبور، وكما في ذكرها لآخرين من المقربين لها في منطقة ولادتها ونشأتها حتى الزمن الحاضر، وهي منطقة البدعة النائمة على نهر الغراف.
ومن وصفية "فيليب لوجون" لرواية السيرة الذاتية مقاربة نقدية واضحة كما في قولته "حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة".
ولا يُشْتَرَطُ على الراوي الاعتماد على الضمير الأوّل "المتكلّم"، بل قد يتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي لا تتحوّل إلى سيرة للآخرين، ومن المتكلم الآخر نموذج هي جدة الشاعرة الراوية المتكلمة، اضافة لآخرين من أطفال مرة ومرة من عائلة التدريس وتلك السجينة خلود وغيرها.
وكان لعامل التذكير عامله الفاعل في تدوين محكي عمل الروائية "رسمية محيبس" ومن السرد الاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة في انتقاء الوقائع الأكثر حفراً وإيثاراً لإنقاء ونجاح ذاكرة الكاتبة، كما في حالة رفض "رسمية محيبس" الانضمام لتنظيم حزب البعث، وما تبعها من مضايقات ووشايات أدى بها للتوقيف كما في وصفها للحالة هذه "تبدأ محطة أكثر إيلاماً وقسوة وشراسة في حياتي كلها، وأنا أنتقل خائفة مذعورة بين دوائر الأمن ورجاله والتحقيق الطويل والاتهامات التي الصقت بي"؟.. وكذلك دخولها المعتقل ذلك المكان التي ذكرت نزلاءها "كيف وجدت نفسي ملقاة وسط تلك المجموعة من النسوة المتأهبات للانقضاض عليّ وهن يلمحن في فريسة يسهل اصطيادها، هل أرادوا تشويه سمعتك الناصعة بإلقائك مع...اعوذ بالله من أنتن"؟، وبما يعني التقاؤها مع اولئك الشابات وبقية النسوة المعتقلات لأسباب اخلاقية بمعيار عادات المجتمع المؤدي بهن للسلوك غير المرضي للآخرين، حيث تعد وصفية هذه الحالة من قبل الكاتبة، بمثل دراسة انتربولوجيا لسسيولوجيا هذا المفصل المحاكي لعالم المرأة، وهنا نتساءل عن هذه الودائع البشرية الناعمة بطبيعتها وتكوينها اللطيف "كاهنات معبد اور"، لما يعتريهن من صعاب ومحنة وألم، كما في نموذج قصة خلود، اضافة للأخريات التي تعد نموذجاً لما تعاني المرآة وما أدى بها لهذا الاعتقال.
وقد كانت جدة الروائية، ذلك الذكر الحاني والطيب المنغمس مع الذات والذات الساردة، لتكون دالة عابرة لوسعية الزمكانية الى ذلك الخطاب والشعور الانساني، لذا كتبت حكاية مشاهدتها للجدة في ذلك القبو وتوصفها "وعلى فمها ترتسم ابتسامة أكثر غموضا وسحرا من ابتسامة الموناليزا" وعن ذلك الرسام السحري الذي قام برسمها وقد اخبرها الشاعر أمير ناصر عن ذلك الفنان التائه الذي يجوب المدينة، والذي تبين انه والد ذلك الطفل وهو شاعر وفنان لم تحالفه الظروف ليظهر في المشهد وهو المعلم " جواد عبد المطلب الياسري" والذي كتبت عنه قصيدة حين وفاته "... مدرسة أم متحف/ لا أحد يعرف عنك/ سوى فقرك وشحوبك، والجسد الضامر، وتألق روحك/ أنت غرست الفرشاة...".
وكان لحضورها الشعري في الكثير من المهرجانات الشعرية وعلى مستوى القطر ومنها الدورات السنوية لمهرجان المربد، وهي تكشف بعض المشاهد غير الشعرية التي تظهر هنا وهناك وباللون الفاقع المخالف لروح الجمع الشعري وأسبابه، لنرى الانبهار بدهان الوجوه ولمعانها لا بنتاج وابداع العقلية الشعرية،ومنها نقرأ ماهية " رسمية محيبس" الانسانة الباحثة والحاملة لصدق أشيائها المنتشرة في حياتها الخاصة والمتمحورة في شعريتها.
وكان لشكواها وضوحاً لما انتاب الحياة كبيئة إنثربولوجيا من تراجعات ونكوصات، ومن الذكر المقارن بالماضي الدافئ بالطمأنينة والتواد في مكون اشارتها الشابة بالشعر في قولها "ما عادت اضواء المدينة فاتنة كما كنا نراها ونحن ننام على السطوح، والظلام اكثر حناناً من احضان الامهات،كان الشجر يمطر فرحاً وعصافير، واليوم جئتك ويدي خالية إلا من حفنة قصائد، وأحلامي التي لن تشيخ..." وتمحور استرجاع الأنا المتكلمة على لغة الروائية والشاعرة الأصل بامتياز شعري معروف، ومنه كان لبصمة اللغة الشعرية حضورها المنساب مع عامل المخيال السارد للأحداث وتفاصيل كاتبة سيرتها الذاتية، ومما اضفى استئناس المتلقي في متابعة حكاية الذات المروية، وكم كان للشاعرة من مكنون كوني في ذاكرة الكاتبة رسمية في تمحور الرواية هذه كما في خطابها الادبي في قولها:" لكني ما جئت كي ألتقط الحجارة من شواطئك وأرميها نحو دمى مزيفة.. جئت وفي يدي اكليل زهر أبيض أريد أن القيه في موجك، كان وجهي الغريب الضائع في زحمة الوجوه يبحث عن مرآة وهو يرتل في سره آيات من سورة الحب، وأنا امرأة يغمرها الماء من جميع الجهات، وتطوف زوارق الحنين قرب مرافئ عينيها".
لقد حمّلَتْ الكاتبة الشاعر رايتها، خطابها الثقافي بصدق موقن وحرص دقيق، لما لها وعليها من طبيعة السلوك الحياتي والآخر الشعري من حرص غير قابل للطعن المعيب،وقد تمعنت الشاعرة كثيرا واشتغلت بجد وحرص، بعيداً عن اللمعان الفاقع، ومنه يمكن القول إن رواية "كاهنات معبد أور" كتبت لتمليك الآخرين ومن الكثير من القراء حرية الفحص والفصل والتكوين لذات الشاعرة، وهي رواية عابرة لسيرة الكاتبة الشاعرة، حيث الكشف والتصريح غير الملتفت لخشية هذا وذلك من ضيقي الأفق في المشهد الثقافي والادبي العراقي.