ادب وفن

في ذكرى رحيله السادسة عشرة : عبد الوهاب البياتي.. إستعادة شاعر المدينة / علي حسن الفواز

الذاكرة العربية حافظة وطاردة في آن معا، وهذه الثنائية تجعلها متوترة دائما، وباحثة عما يعزز أمانها الوجودي والشعري، لاسيما أنها الأكثر حساسية في تعاطيها مع فوبيا التاريخ والمكان والزمان.
الشعراء قد يكونون الأكثر تمردا على هذه الحساسية، لأنهم يتصورون دائما أنّ العالم ليس الاّ نصوصا ومدونات، ولا شيء خارج لعبة هذا التدوين.. وحتى الأحكام النقدية والتاريخية والشرعية تخضع لسياقات وحسابات وطرائق التدوين وأصحابه. مع استعادة الذكرى السادسة عشرة لرحيل الشاعر عبد الوهاب البياتي، يتبدى حديث الذاكرة حاضرا، بتمظهراته وأسئلته، ومفارقاته، حدّ أن الحكم على تجربة رائدة يكون أكثر وضوحا، وأكثر تلمسا لمفهوم الريادة، ولخصوصية شاعر عاش كل تحولات الثورة العربية وأسفارها الثقافية، واستغرقته أسئلة التجديد وهموم الصراعات الأيديولوجية والوطنية، بما فيها هموم اليسار بمعناه الحزبي، واليسار بمعناه الثوري.
البياتي شاعر ذاتوي، جسّد بهذه الذاتوية قلق الشاعر إزاء الجماعة، وقلق الشاعر إزاء الحزب والتاريخ والنمط الشعري، ولعل هذا التجسيد دفعه لأن يكون أكثر بحثا عن سرائر القصيدة وهي تلامس معاني مختلفة، وتهجس برؤية جديدة للعالم الذي فقد الكثير من ألفته، فضلا عن قلقه إزاء فكرة التجنيس الشعري، والانفتاح على تحولات كبرى مسّت روح القصيدة، وكسّرت إيقاعاتها وجملتها النحوية والبصرية، وما عاد أمام الشاعر سوى البحث والكشف والتجاوز، من خلال تحفيز فاعليات القراءة، وفحص "الأنساق المضمرة" للإرث الذي تعالقت به القصيدة مع الأفكار، ومع حمولاتها الرمزية.
البياتي اشتغل على الحمولة الرمزية للقصيدة بما فيها رمزية القناع للشخصية التاريخية، وللشخصية الصوفية، ففكك الكثير من "جلمودها" وفضح الكثير من خباياها، إذ حاول أن يستنطق عبرها التاريخ، وسيرة الشعراء والمدونين، وكذلك استدراج القصيدة الى "الشخصنة" حيث الخلاص من نص التاريخ، ونص الجماعة، وهذه اللعبة خففت الكثير من أعباء البلاغة، وأعطت لها حرية البحث عن وجه آخر للذة، بما فيها لذة الاحتفال والنشيد، وهو ما كان واردا ومكرسا في القصيدة العربية "المؤدبة" والحريصة على زيّها وجنوستها..
قد يكون البياتي ابنا للمدينة، ولفضاءاتها وشفراتها، لكنه أيضا هو ابن للقراءات المتمردة التي أورثها له الصوفيون، أولئك الذين تمردوا على النسق، واقتربوا من النص بوصفه بوحا للحلول، أكثر من حاجته بلاغة العائلة، وحكمة الجماعة، لذا راحت قصيدته تحتفي بـ "الخفة" حيث الجملة الطرية، وحيث غنائية النشيد، وحيث روح المدينة الضاجة بأصوات تتسع مدياتها باتساع تحولاتها الاجتماعية، ولعلي أقارن أحيانا بين التحولات التي حدثت في البنية الموسيقية للمقام الغنائي العراقي، والتحولات التي بدأت تحدث في القصيدة العراقية التي ظل فيها بدر شاكر السياب خجولا في تمرده، بعكس البياتي الذي كان أكثر مشاكسة، إذ تعرّت قصيدته بخفتها لتكون الأقرب تمثّلا لهواجس التغيير، والأكثر اقترابا من الغناء المقامي بنبرة "ناظم الغزالي" ذي المساحات الصوتية المفتوحة والعالية، وهو ما لم تألفه القصيدة العراقية ولا حتى العربية، ولم تألفه أيضا البنية المقامية للأغنية بإيقاعها الرتيب عند رموزها الكبار "القندرجي، ومحمد القبانجي، ويوسف عمر". البيئة الشعبية التي عاش فيها عبد الوهاب البياتي- منطقة الباب الشيخ- كانت بيئة مقامات شعبية، وبيئة ديموغرافية متعددة الثقافات والأصوات، وهذا المعطى أورثه الرغبة في التغيير، وعدم الخشية من الارث الذي ظل السياب حريصا على بعض مظاهره بحكم تأثير بيئته الريفية المغلقة، ومرجعيات مدرسته البصرية ذات التقاليد الصارمة في درسها النحوي والشعري والتاريخي…
قد لا يُعنى البعض بموضوع استعادة الشعراء الموتى، رغم أن أصواتهم كانت تملأ جنبات الأمكنة، ورغم أن أمر ريادتهم الشعرية ظل لعقود بابا للمناكدة النقدية، ولأحاديث خالية من المعنى عن توصيفات هذه الريادة.. لكنهم سيعنون حتما حين يكون الحديث إلى جدل يلامس هوية التحديث، وطبيعة المنجز الشعري الذي تركه أولئك الرواد في الجسد الشعري، وفي طبيعة السؤال النقدي الذي انكشف على مجموعة من الإشكالات التاريخية على مستوى فهم القصيدة، وفهم ثنائيات الشكل والمعنى، والغموض والوضوح، والوجود والعدم وغيرها..
وشعرية عبد الوهاب البياتي وجدت نفسها عند عتبة مثيرة للتحولات الشعرية الكبرى، بدءا من صدمة التجديد في مصر في بدايات القرن العشرين، والصراعات التي رافقتها على مستوى الدرس الجامعي، وعلى مستوى النظر في الخطاب الشعري كما عند طه حسين، والنظر الى الخطاب الديني كما عند علي عبد الرازق، وصولا بصدمة الحرب العالمية الثانية، ونشوء حركات التجديد الثقافي والاجتماعي مع حركة جماعة أبولو وحركة جماعة الديوان وانتهاء بنشوء المدارس اللبنانية في المهجر، وفي بيروت، حيث حركة التجديد بوجه ثقافتها الفرنسية التي رافقت صدور مجلات "الأديب" و"شعر"، وحيث بروز حساسية المغامرة الشعرية عند يوسف الخال وادونيس وشوقي ابي شقرا وأنسي الحاج وغيرهم، وهو ما كان يقابل نشوء حركات تجديد في العراق بمؤثرات إنكليزية ابتدأت مع تأثيرات المدرسة الرومانتيكية في إنكلترا وصولا إلى تأثيرات الشعراء عزرا باوند وت. س أليوت وأديث ستويل، التي تأثر بها السياب كثيرا، لكن هناك المؤثرات ذات النبرة الغنائية التي جاءت خلال تلك المدة مع المدرسة الواقعية الفرنسية عند أرغون وبول إيلوار، وعند المدارس الواقعية التجديدية الروسية عند آخمادوفا ومايكوفسكي وبرودسكي، فضلا عن الواقعية الإنسانية عند شعراء مثل لوركا وناظم حكمت، التي تأثر بها عبد الوهاب البياتي كثيرا..
هذه المؤثرات تمثل تاريخا لهوية التحولات التي عاشتها القصيدة العربية والعراقية، والطبائع المختلفة التي أثرّت في اتجاهاتها وفي مشغلها وفي تحديد مسارات تحولاتها الفنية، وهو ما يجعل الحديث عن البياتي له خصوصية قليلا ما تحدّث عنها النقاد والباحثون- ليس لبيان أهمية البياتي في الذاكرة الشعرية، بل في هوية التحولات التي عاشت مخاضها القصيدة العربية الجديدة، على مستوى بناء الجملة والصورة، وعلى مستوى علاقة الشاعر بمفاهيم غامضة مثل الثورة والأيديولوجيا والحرية، التي لم تكن أطرا خارجية فقط أو حتى شعاراتية، بل أنها أيضا مسّت "جوانيات" القصيدة، وإكسابها طبائع مغايرة، تخففت فيها أشكالها وأساليبها من مهيمنات النمط الوزني المعروف، والطابع القيمي الذي كثيرا ما حاصر مفهوم القصيدة بحمولاته الرمزية..
البياتي شاعر المدينة، وشاعر الخفة والنشيد والحلم، وشاعر الجملة الطرية، وهذه لوحدها تجعله واحدا من أكثر الشعراء العرب تأثيرا في تكريس هوية شاعر المدينة بكل قلقه وشغفه بالحرية، ومثلما هو الشاعر المغامر في تعرية القصيدة من بداوتها وبلاغتها اللتين ظلتا خبيأتين تحت الكثير من ثيابها.. وأحسب أن البياتي هو العتبة الشعرية الحقيقية التي انطلقت منها مغامرات شعراء الستينيات الباحثين عن وجوه أخرى للحرية واللغة والفكرة والمعنى