ادب وفن

قصة لوحة شيوعية / علي آل شمه

في يوم الجمعة 26 تموز 2013 زرت مدينة الحلة الفيحاء، وقد كنت بمعية أصدقائي المهندس عبد عون الرماحي والأستاذ الصحفي حمد العطراني للاطمئنان على حال الصديق العزيز الأستاذ رحيم الحلي الذي جعلته الأيام ندا لها فمزقت شمل عائلته بين العراق ولبنان ومصر.
استقبلنا كعادته بوجهه البشوش وصدره الرحب وطيب أخلاق، وكان مقر الحزب الشيوعي في مدينة الحلة أحد محطات استراحتنا.
وأثناء ما كنا نتبادل أطراف الحديث، لفتت انتباهي لوحة فنية كانت معلقة على الجدار، وهي عبارة عن قطعة من القماش طُرزت عليها صورة مزهرية وفيها مجموعة من الورود، وفي وسط المزهرية الرقم "49" وقد تهاوت زهرةً جميلة من بين باقة الزهور الى الجانب الأيمن منها وكأنها تحمل رسالة، وبالأسفل منها توجد العبارة التالية: وباللون الأحمر "الاعدام 83". فعرفت أن وراء هذه اللوحة الفنية قصة كبيرة، فتناسيت خجلي ودفعني الفضول لأتقدم بضع خطوات باتجاه اللوحة وقرأت ما مكتوب أسفلها فوجدت الأتي:"من زنزانة الاعدام في سجن الموصل سنة 1983م قام بهذا العمل الفني الشهيد أحمد يحيى بربن، محتفلا بالذكرى 49 لتأسيس الحزب الشيوعي".
عرفت من فوري معنى الرقمين 83 و49، ولكن يا ترى كيف وصلت هذه اللوحة الى مقر الحزب الشيوعي؟ ومن حافظ عليها طوال هذه السنين؟
كان هذا سؤال وجهته الى الأستاذ رحيم الحلي فأجابني بعد أن تنهد حسراً لبرهة من الزمن، قال: لقد كان الشهيد أحمد بربن من أعز أصدقائي وهو من المناضلين الذين اتخذوا من سوريا منطلقا لهم منذ بداية الثمانينيات وكانت أخباره منقطعة تماما عن أهله ويجهلون مصيره بشكل كامل. وفي أحد الأيام قرر الشهيد أحمد الالتحاق بحركة الأنصار في كردستان، وكان من المقرر أن يكون رحيم الحلي من ضمن المجموعة الملتحقة الا أن ظروفا خاصة منعته من الذهاب مع مجموعة الشهيد أحمد.
ولكن مع الأسف الشديد وقعت هذه المجموعة بالكامل بيد البعثيين في كمين نصب لهم فتم اعتقاله ومحاكمته في مدينة الموصل، وهناك، وعن طريق أحد السجناء الذين أطلق سراحهم، وهو من أبناء الحلة أوصاه الشهيد أحمد بأن ينقل خبر اعتقاله لوالدته، ولتأكيد الخبر أعطاه ورقة رسم فيها الشهيد أحمد شجرة عائلته بكل تفرعاتها، من اخوته وأخواته وخالاته وعماته وأبنائهم وبناتهم بجميع تفرعاتهم.
وبالفعل تأكد خبر اعتقاله لوالدته فور وصول هذه الورقة لها عن طريق السجين الذي أطلق سراحه، فذهبت لزيارة ابنها في سجن الموصل مرتين، وفي الثالثة أخبر الشهيد أحمد والدته بانه لا يريدها أن تتفاجأ اذا لم تجده في المرة القادمة لأن وقت رحيله من هذه الحياة قد اقترب من حبل المشانق، فكان الوداع الأخير، والوداع الحزين من أم لابنها العزيز، وفعلا، في المرة الرابعة استلم أهله جثة هذا المناضل البطل، فقاموا بدفنه، واستلموا أشياءه، ومن بين تلك الأشياء كانت تلك اللوحة التي احتفل من خلالها بصمت بتاريخ تأسيس الحزب الشيوعي وفاء منه، وايماناً بتلك المبادئ السامية التي حمل على عاتقه مسؤولية الدفاع عنها والثبات عليها، فاحتفظت هذه الأم الحنونة بتلك اللوحة طيلة عشرين عاماً، لأنها كانت تمثل بالنسبة لها روح ولدها الذي اعدمته أيادي الظلم والطغيان..
بعد سقوط النظام الدكتاتوري، افتتح الحزب الشيوعي مقراً له في مدينة الحلة، فكان من بين الزائرين هذه الأم الحنونة التي جاءت لتهدي هذه اللوحة للحزب، بعد أن روت هذه القصة كاملةً، فبادر أعضاء المكتب وبكل شرف واعتزاز الى تأطير هذه اللوحة، لتكون بمثابة وسام معلق في واجهة المكتب الداخلي للحزب الشيوعي، تخليداً لهذا البطل الوطني، وهي تروي قصة انتصار هذا المناضل على الظلم والطغيان ولو بعد حين.