ادب وفن

قراءة في شعر صادق الزعيري / زيد الشهيد

التعبير عن الرؤية
في توطئة جمعت ثماني فقرات نثرية لخص الشاعر صادق الزعيري رؤيته للشعر، وجعلها عتبة لابد لمن يدخل بستان ابداعه الأدبي من المرور بها والتعرف على ببلوغرفيا أدبية ممزوجة ببوح، لأنه شاعر كتب الشعر منذ مرحلة الدراسة المتوسطة «ستينات القرن العشرين تحديداً»، ولم تر باكورة اصداره لمجموعة شعرية الا في العام 2012 اسماها «الكتابة على الأرض»، لكأنه يشير الى أن الخطو على الأديم انطلاقاً من نقطة وصولاً لنقطة يتطلب أعواماً. فالكتابة حفر على صوان الزمن لا على رمال صحراء تقارعها الريح دوماً وتتوعدها بالزوال.
في الفقرة الأولى من التوطئة يناهض الشاعر مقولة نزار قباني «الشعر قنديل اخضر» فيجترح له مقولة خاصة به تقول «الشعر قنديل أحمر»؛ واصفاً الشاعر الحقيقي بالمتجاوِز والمشاكِس والمتحرِّش. فهو يقول أن (( الشاعر الحقيقي لا يقف في معتقدي امام الشارة الحمراء بل عليه تجاوزها؛ بل عليه مشاكسة الواقع والثوابت والاوابد ويتحرش بالسلطة الاستبدادية أو الوالي القاهر، بالمباشر حيناً وبالغمز أحيانا. وهذا باعتقادي سبب وجيه ومبرر منطقي ان القياصرة يكرهون الشعراء».إذاً الشعر الحقيقي وفق رؤيته هو المتصادم وجها لوجه مع الماثل المألوف الذي يحيا الاستكانة ، ومع الستاتيك الذي يقتل في الروح نزوع الابداع والخلق والتغيير، ويرفض الطواطمالتي تكينن ابدية الخضوع والخنوع.. انه الرافض للاستبداد بوصفه حامل مشعل النور في ديجور الهيمنة القسرية كما يوجين في صراعه مع العتمة من أجل تنوير النفوس النائمة وايقاظها لتقرر مصيرها بيدها.. وهو بهذا يتبع خطى «يوجين» وينده على «المعري» في حب الخير ونكران الذات، ويتماهى مع كبرياء هارون الرشيد وهو يخاطب الغمامة التي تمر من فوقه؛ فيردد:
أيتها الغمامة البيضاء
إذا لم تمطري على الجميع
غادري سمائي فوراً.
والفقرة الثانية من التوطئة لا يأبه الزعيري للشكل الشعري وبنيته بقدر ما يرى في الشعر «موسيقى داخلية» وسقوط «في غيبوبة حسية جميلة وتيهان فني ممتع»،فقد حوت المجموعة نماذج متنوعة من القصيدة العمودية والتفعيلة وقصيدة النثر؛ ما يؤكد رؤيته للقصيدة على انها كينونة تبنيها الموسيقى والفن والجمال متوخيةً استعذابها من قبل ذائقة المتلقي في المراحل القادمة ـ، مثلما يجد الشعر غاوياً، يجره لبراريه فيسقط اسير خداعه وغوايته. فالشعر بعرفه لص يراوده ويعانده؛ يستدرجه ثم يتخلى عنه؛ يتآمر عليه ولا يخجل منه:
لا يخجل مني
يضاجع ورقي دون استئذان
يدلف غرفتي الثكلى دون موافقتي.
يأمر قلمه ان يكتبه
ويفرط رمانة قلبي
يغتصب الفكرة من رأسي
....
يكسر نافذة الفكرة
إن الشاعر في اشارته «يكسر نافذة الفكرة» يقف مع الروائي التشيكي ميلان كونديرافي اعترافاته ان َّأبطال رواياته كثيراً ما ينتفضون عليه فيأخذون منحى غير الذي خططه لهم ورسمهم في ذاكرته. وتلك ظاهرة لا يمكن نكرانها عند المبدعين، وخصوصاً في السرد حيث الذي يسكبه على الورق غير الذي رسمه في المخيلة.
اعتراف الشاعر هجر
في الفقرة الثالثة من التوطئة يجمل الشاعر وجوده الادبي بحقبة تتعدى ربع قرن من الصمت «1979-2003». ومرد هذا الصمت هو القرار الحاسم الذي اتخذه يوم وجد نفسه أمام خيارين «إمّا التزمير او التبخير والتطبيل او الخرس الاجباري»،الذي يعني الصمت الممض؛ فاختار الثاني دون ان يعلم ان اختياره للصمت سينتج عنه ندمً، فيعترف انه «كان خطأً فادحاً». ذلك انه كان بمقدوره الكتابة في ظل التواري؛ وكان بإمكانه تأرخة مشاعره الممطرة على الورق وتدوين ما ستطلع عليه الاجيال القادمة فتتفاعل معه سلباً او ايجاباً.. فكم من اعمال عادت الى الحياة باحتفاء وتقدير، فاستحالت مصدر دراسات وانشطة بحثاً عن المكنون فيها من لآلي الخلق الجميل.. لقد اخفى كافكا كتاباته وابعدها عن نور النشر ورجا صديقه.... وتعهده التخلص منها فكان نقض الصديق للعهد فعلاً انسانياً قدم للبشرية كنزاً أدبياً لم يكن لينهل منه القراء لو بقي متوارياً الى الابد.
حملتُ صليبي ستين عاماً// على ظهري فلم أصلبِ
وساومني الطغاة على مبدئي// فهم خسئوا ولم أُرهَبِ
وراودتني الحياةُ على غيّها// تصبّرتُ لم أغوَ ولم أجبِ
ولن أُمسّح كتفَ الولاةِ// على عنتٍ لن أدفُّ ولم أُطربِ
في الفقرتين الرابعة والخامسة يشدد الشاعر على تلقائية الشعر وعفويته؛ يدخل ميدان الادب ويأخذ طابع التجنيس مرتدياً ثوب البراءة.. فهو لا يحتاج الى تمارين احماء كي ينتفخ كما العضلة، ولا الى حمحمة وتسلطن على المقام الذي سينطلق منه كما عند المغني. هو كما يشير الشاعر يأتي «تلقائياً يدغدغ المشاعر الانسانية والاحاسيس النائمة»،لا يعرف متى يأتي ليطرق بابه ويدعوه للدخول والانسكاب على الورقة؛ فرسول حمزاتوف يضع قلماً وورقة في اماكن مختلفة من بيته واضعاً في الحسبان مداهمة الشعر له ليهرع يدون لئلاً يتسرب من بين انامل اللحظة ويضيع. وكتابته هي «كتابة عفوية موحية تكره المواعيد وتنبذ الميقات ولا تعترف بالقابلة».
أنا شاعرٌ
كلماتي حبلى
وإنَّ الطلقً أحياناً
يطول .
نعم قد يطول الطلق ويبقى الشاعر في انتظار.. يتوسل في القصيدة أن تجيء من بساتين الحلم محمَّلة بالوليد الجديد وقد حمل تقاس سحنة مُراد الشاعر ورغبته في التصوير.. يقدم الشاعر الرجاء للقصيدة كي تدخل ربوع مشاعره وتتجلى: كاشفاً براءته وعارضاً دواخله غيرالعصية.
اقتحميني.. ايتها القصيدة الحلم
اقتحمي قلاعي فهي ليست حصينة
اقتحمي مزرعةَ اوراقي، أيتها المطهمة
فإني لستُ عصياً على الترويض
دروعُ جسدي هشّة
وسيوفي من قصب.
العودة الى طفولة الابداع
يعود الشاعر الزعيري في الفقرة السادسة ليغني المتلقي بجذور اهتمامه الادبي وبواكير نشأته الابداعية فنتعرف على نشاط ابداعي تكلف به هو والشاعر يحيى السماوي يوم كانا طلابا في المتوسطة الوحيدة في السماوة فاصدرا مجلة ادبية اطلقا عليها « الشذى « ( «أحسب ان كلمة الشذى بالألف المقصورة خطأ وكان الأصح كتابتها بالألف الممدودة».بوح يبغي منه الشاعر الاشارة الى أن الابداع لكي يكون متراغياً ومتعاليا ومؤثرا لابد من مواصلة السير في درب الآلام قراءةً وكتابة دون التلكؤ او المراوحة؛ فهذان السلوكان يقوضان موهبة المبدع ويدفعانه الى الرتابة.
ماذا تملك؟
لا أملك غير الكلمات.
وماذا بعدُ؟
في جيبي قلمٌ.
في المكتب طرسٌ
ودمي صار الحبرَ مراراً.
عند الدخول الى رؤية الشاعر السابعة نستشف نظرته وايمانه بالحداثة بوصفها مساراً جيلياً تقتضيه الحاجة لدى بعض المبدعين ممن يرون السائد تهالك وآن للجديد والمستحدث ان يأخذ دوره ويتقدم على ما سبقه؛ لكنه يعيب أو لا يتوافق على من يأخذ بالشعر الى دروب لا يمكن وصفها الا بالمتاهات والالغاز واللاوضوح. فهو يقول «ان بعض الشعراء يوغل في الغرابة والغموض والاحجية تحت مبررات الحداثة»، ونراه يدعو «الى اقامة صرح شعري حديث يتمتع بكل مقومات الحداثة بصور شعرية فنية جديدة وتراكيب ومجازات مستجدات غير مستهلكة وخلق فضاءات رحبة طامحاً لخلق متلق يرتفع الى مستوى ذائقة الشاعر ووعيه بعوالمه الشعرية الراقية»،ومع هذا البوح لعرض نظرة الشاعر وعظمته وارتفاعه الى مستوى الانبياء كما هو المتنبي يتجلى رثاءه لمصير الشعراء. وتلك ما يريد اختتام نظرته أباحت به الفقرة الثامنة والاخيرة. فـ «أكثر الشعراء الذين يضيئون العالم بمصابيح كلماتهم ويسفحون حبر دمهم على الطرس ويعتصرون ارواحهم على الورق لا ينالون إلا العسف والصدود والنكران والخسارات»، ويستشهد بأسماء عديدة منهم عبد المحسن الكاظمي واحمد الصافي النجفي والسياب والجواهري والبياتي وكاظم السماوي وبلند الحيدري حيث ماتوا في المنافي ودفنوا في غير ارض وطنهم الذي تغنوا به وهاموا عشقا بثراه وسمائه.
جسدٌ واحد.. ومائةُ خنجر
ألا تكفيكم الطعنات؟
إن جسدي لا لا يكفيكَ دريئة
أيها الوطن المسجى على الرافدين
إنك ملقى على الطرقات
دمٌ في الشوارع
دمٌ في المساجد دمٌ في الكنائس.
إن «الكتابة على الأرض» منظومة شعرية استطاع الشاعر ان يقول فكره ويعلن عن رؤاه ويثبت ان الشعر رسالة، والقصيدة ايقونة تحكي للزمن سفرَ حياةِ شعبٍ وشعوبٍ بلسانٍ واحدٍ لا يمكن ان يكون الا الشاعر صادق الزعيري. فقد اتحف الشعر بالنظم الجيد والمؤثر، وقال ما يحتاج اليه مَن لا يجيدون التعبير شعراً.