ادب وفن

تعشيق الرؤى */ جاسم عاصي

معالجة المكان في كتابات الدكتور أسعد الأسدي تزاوج في الأسلوب بين لغة العلم ــ الهندسة ــ واللغة الأدبية. ففي الأولى يراعي رؤيته المهنية، وفي الثانية ينطلق من رؤيته الإبداعية، كوّنه يتعامل مع نص أدبي رؤيوي عن المكان. والأخذ بهما يتبع الاندماج حد عدم التفريق. ذلك لأنه يُحدث تداخلاً وتماهياً بين اللغتين.
وتكون المحصلة النهائية؛ إننا إزاء نص مكان، يراعي من خلاله ما يتواصل مع المكان، الذي هو العمارة، وما تتطلب من إنشاء واستكمال .بمعنى المكان بساكنيه. وبهذا يراعي العلاقات الانثروبولوجية التي تُقيم الصلة بالمكان عبر نوع من الألفة القائمة على التجاوب بين الحيّز المكاني وقاطنيه. وهذا لا يتم إلا بتوفر الكثير الذي يتصل بالعمارة باعتبارها مكانا للإيواء. ومن هذه الرؤية يحاول الكاتب أن يؤسس لمستلزمات المكان، سواء بما يؤيد وجهة النظر، أو تحقيق الرؤية الذاتية لمثل هذا المبحث. وفي كل منطلقاته التأسيسية ينحو إلى اعتبار الأمكنة الأولى كالكهوف والأعشاش والمنازل الأولى هي الأمكنة التي اتخذها الإنسان حامية له، ومطورة لإمكانياته الذاتية، على اعتبارها وفّرت له حالة التأمل في الوجود. والدليل على ذلك ما حصل في فن الكهوف باعتباره نوعا من السرديات التشكيلية.
لقد حاول الكاتب أن يؤكد أهمية ما ينبغي توفره في المكان من خلال مراعاة الجانب الحسّي إزاءه، الذي يقوم بدوره بمنح الوجود نوعا من ثراء العطاء، بسبب العلاقة الإيجابية بينه وبين ساكنيه. إن هذا المنطلق، هو المركز في كل مداولات ما كتب، مسترشداً بأهم المقومات.
ثراء الرؤى
لا شك أن الثراء واغتناء الشيء، لا يأتي إلا من صفاء الرؤى ونقائها. وهذا ما توفر للكاتب لتحقيق نص مكان قادر على الدمج بين صورتين مهمتين؛ صفة المكان وخصائصه، ثم قدرته على استيعاب رغبات ساكنيه. وهذا لا يتوفر كما ذكرنا، إلا عبر التأكيد معمارياً بين أن يكون المكان ذا صلة بإدامة العلاقة، أو أنه يحمل عوامل النفور منه. بمعنى أن معالجة الكاتب تكتنفها حقائق علمية ــ هندسية ــ لا تغفل عن الجانب الإنساني في وظائف المكان.
لعل أهم ما عالج الكاتب هي العلاقة بين المكان والعمارة. فهو يتسلل إلى المكان من خلال المبنى بشتى أشكاله ووظائفه. فحين يعني العمارة، لا يرى في هذا أنه ينظر إلى ضخامة المبنى، بقدر ما يؤكد خاصيته الإنسانية. فالعمارة هنا تأكيد على هندسة المبنى وقدرته على أن يكون مأوى بمواصفات عامة ترتبط بوجود الإنسان بكل متطلباته، وخاصة ما يتعلق بذاكرته. فالبيت هو حيّز لا يختلف عن المبنى الكبير الذي يتشكّل من مرافق وطوابق عدة. كلاهما يخضع إلى ذهنية مؤسسة ومبتكرة. بمعنى ما يحتاجه المنزل من رؤى لتشييده، تحتاجه العمارة كذلك. لذا نرى أن النظرة إلى حجم المبنى يتأتى من جدلية وجوده، ومدى ملاءمته لمتطلبات الساكن فيه. وهو لا يفّرق بين الصغير والكبير من باب التحديد على الصيغة المتعلقة بالحجم فقط، بل أنه يعني بذلك الصيغة الكبرى، التي تتجسد بالمدينة، والتي عالجها "محمد خضير" من باب ذاكرة المدينة، ومعمارها الذي تعمل الرؤية على إحداث نوع من المقارنة بين ما كان وكائن وما سوف يكون. إذا يكون المكان هنا التاريخ الذي يحمل صورة لخصائص المكان، هو المحرّك لهذه العلاقة. فالمأوى هنا حاصل تحصيل للمكان، ومستلزماته هي نتائج لوجوده. إذ لا مكان دون خصائص ومستلزمات. وهذا ما درج عليه "الأسدي" وهو يبحث ليس في تاريخ المكان فحسب، وإنما في صناعة صورته التي تؤرخ له. وهذا يتطلب العمل على دراسة هذا التاريخ. ووضع وجهة النظر وفق موقف لا يمحي الأثر على العمارة أو البيت. وهو حراك فكري معماري، ينظر إلى القديم أو السابق، بمثل ما ينظر إلى الحاضر والمعاصر والمستقبل. صحيح إن لكل طرف مكوّناته الجدلية، لكن المعنى الأهم أنه يؤكد صفته كمأوى. وهذا لا يتم من وجهة نظر الكاتب، إلا بالعمل على أن تكون ثمة موازنة بين ما هو موروث وما هو معاصر. فالقطيعة تعني ضياع الهوية المعمارية. وهذا يسحب الأشياء إلى حدوث نوع من التنافر في الذوق. فلكل من خصائص العمارة متعلق زمني، وهذا المتعلق صاغ المكان، وهذا المكان خلاصة لرؤى الإنسان. أي أنه سد الحاجة، وملأ الفراغ. وهنا نعني أن له لغة معمارية خاصة. كما وأن للحديث ما هو مكمل لوجوده. لكن الأهم من كل ذلك أن تراعى العلاقة الجدلية بين القديم والحديث، من باب مراعاة العلة والمعلول، السبب والنتيجة والتي لها علاقة بالذوق والقبول. فلا تكون خاصية القديم مهيمنة، ولا خاصية الحديث طاغية. إن القطيعة بين الاثنين تعني القطيعة بالذوق. وهذا لا يُقاس بالمألوف والمرتجى والطموح، بقدر ما له علاقة بالـتأسيس، أي الديمومة الرؤيوية التي تلاحق المستجد، وتُدقق في أسسه ومتغيراته. إن التصادم غير منظور، لأنه مفروض. والإنسان لا يُعبّر عن فساد الذوق، بسبب طغيان الأنا المقلدة وليس المبتكرة. وبهذا قدّم توصيفاً لما هو مشيّد على أساس الذائقة الفردية، دون مراعاة الذوق العام ومديات الانسجام الذي أسسته العمارة التقليدية ــ التلقائية ــ التي تراعي العلاقات الاجتماعية من خلال زاوية النظر. إن هذا التنوع المزاجي للمباني يؤدي إلى الصدمة، لأنه مضاد للبنية الأساسية للمبنى، التي تأخذ من القديم انسجامه الدال على الذوق الرفيع. فالتعاشق بين أسلوبين معماريين، لا يعني مصادرة السلف والانقطاع عنه، لأنه يشكّل صدمة معمارية. وهذا ما أكدته عمارة "زها حديد" في كوّنها راعت خصائص المكان الموروث، وتداخلت معه من خلال رؤى حداثوية، معنية بالوظائف الجديدة للمبنى. فمثلاً كانت الشرفة من أهم مستلزمات القديم، من باب إدامة الصلة الاجتماعية من جهة، وتوفير مجالاً حيوياً للاتصال بالعالم، وعلى عكسها الطلعات في المبنى الحديث. فالأولى تحافظ على التطلع من الداخل إلى الخارج. فهي بمثابة زاوية نظر تتوفر على حرية النظر والتطلع، بينما الطلعات الحديثة، فأنها تُبعثر زوايا النظر، لعدم توفر زاوية التركيز. أي من الخارج وإلى الخارج. النظرات يمتصها الفضاء المفتوح. فإذا كانت الشرفة مشيّدة في البناء من أجل وظيفة، تتشعب إلى وظائف، فأن الطلعات تأكل وظائفها، بسبب عدم محدودية زاوية النظر. كما وأنه بكتاباته وانثيالاته وهو بصدد العمارة يؤكد على أن التشييد يحاول التأكيد على أن المبنى لابد أن يمتلك لغة الاستنطاق. ونعني فبه استنطاق الصامت، متمثلاً في الجدران مثلاً، والعمل على تشييدها على وضعيات تؤدي وظائف جديدة، لاسيّما علاقتها بالداخل والخارج من المبنى، حيث تصبح نوع من الإطلالة على فضاء الخارج كالحديقة والممرات، والفضاء العلوي للبناء. هذا الانسجام وفره شكّل الجدار حصراً. وبهذا نجد أنه أكد على مراعاة الحسّي عند الساكن، وليس المتصوّر النظري، الذي يخضع إلى نزق الابتكار غير المراعي للموروث. فالمكان تاريخ وذاكرة، سيبقى كذلك، إذا راعي صلته بالذي سبقه. فكما لا يمكن قطع الصلة بأحداث التاريخ، كوّنها تخضع الى الجدلية في حركته، فالمبنى أيضاً تاريخ أيضاً، لابد من المحافظة على صلة حلقاته. فالحسّي تلبية لحاجة، والمتصوّر والمرئي تلبية للابتكار غير المدروس، أي التقليد. وكل هذا حصيلة معرفية وفكرية، يتوجب توفرها عند المشيِّد، سواء كان بنّاءًّ أو مهندساً معمارياً. فنحن إزاء رؤى للمبنى القديم. فنظرة "الأسدي" للقديم، هي نظرة تخضع لجدلية في العلاقات الظاهرة والخفية للمبنى. ولا يتمادى في تصوراته، بحيث تضيع صيرورة الفكر الذي يعتمد عليه، بل أنه يتأنى في نظرته للقديم بقدر نظرته لمتطلب الجديد. فمثلاً في علاقة الجسد ــ الساكن ــ مع المكان، تكون خاضعة الى نوع من الموازنة التي تراعي الوظائف لكل ما يحتويه المكان من الداخل مثلاً. وهذ يخص الصغير بقدر ما يخص الكبير، كألوان الجدران، ووضع المزهريات والأصص، ومصادر الإنارة، والأثاث، وإلى غير ذلك من مكلمات المنزل. يؤكد في هذا على:
"يكون انشغال العمارة بالمكان حدثاً واقعياً، بوصفها فناً يستهلك المكان ويُعيد إنتاجه.... يتجسد ذلك مادياً في ما يُطال المكان من تحوّل، ليكون ما تعتقده العمارة عن المكان هو ما لا تقوله في صورة مكان".
وفي هذا نرى أن عنصر الإبداع أكثر شيوعاً في نظرته المعمارية للمكان، في كونه صياغة جديدة برؤى متوائمة ومنسجمة. إن الانسجام لا يتم إلا عبر رؤى منفتحة وذكية وغير قلقة. أي أن الإبداع، هو أن تُعيد ترتيب المكان كي يؤدي إلى تكافل الأشياء، وتوصله البناء عوالم متمايزة ــ على حد ما ذكر الكاتب في استطراده عن المكان والعمارة ــ وهو عنصر مهم في تشييد المبنى، من حيث مراعاة الحاجة، الذي يدفع إلى مراعاة الذوق والوظيفة. في العمارة، الجسد الذي نسكنه ويسكننا هو الذي يتلمس المكان.
ـــــــــــــــــــــ
* جزء من دراسة طويلة