ادب وفن

بديع عمر نظمي شمعة انطفأت قبل الأوان / ابراهيم الحريري

كان رواد مقصف اتحاد الادباء ليلة 7/ 8 شبط 1963 يتهيأون لشد الرحال , فقد قارب موعد الأغلاق , من بين هؤلاء كان ثمة ثلاثة هم : بديع عمر نظمي , خالد السلام, وابراهيم الحريري .
خطونا نحو البوابة تستخفنا بنت الحان , انشد خالد مقاطع من المارسيلييز ( نشيد الثورة الفرنسية ) دندن بديع مقاطع من السمفونية السابعة " لنينغراد " , للمؤلف الموسيقي الروسي الشهير, شوستاكوفتش , بينما كنت اردد مقاطع من انشودة ايطالية مترجمة ( ترجمها رئيف خوري من بين ما ترجم ,( نشيد الأممية) كان يرددها خالي , القائد الشيوعي اللبناني , و المقطع هو " لن نؤدي الضرائب , للفاشست الثعالب , و نبيت الدجى جائعين "
اتفقنا انا و بديع ان نلتقي صباح اليوم التالي , الثامن من شباط , عند بوابة المركز الثقافي السوفييتي , لأعيد كتاباً اسمه : بطل من هذا الزمان : للروائي الروسي " ليرمنتوف " و ليعرّفني على مدير المركز , الشاعر الراحل بلند الحيدري .
صرّ بديع و هو يودعنا , اسنانه , فتح ذراعيه , كور قبضتيه , ثم اطلق , متلذذا , كأنه انتهى, توا , من تناول وجبة شهية, ضحكته الحسّية الشهيرة .
صباح 8 شباط لم التق بديع . كان الفاشست العراقيون بدأوا انقلابهم . هرع كل منا الى مكان . قاوم كل منا الفاشست بطريقته حتى التقينا ليلة 19 / 20 شباط , ليلة دهم اهم المراكز الحزبية, بينها بيت القائد الشهيد سلام عادل و عشرات البيوت الحزبية الأخرى, بسب انهيار هادي هاشم الاعظمي .
لم التق بديع عند بوابة المركز الثقافي السوفييتي, بل بعد ذلك باسبوعين, في الصالة الفسيحة من الطابق الثاني لقصر الرحاب ( اشتهر فيما بعد باسم " قصر النهاية " ) . استطعت , من خلال عصبة عيني المرخية , ان انظر الى العشرات من قادة و كوادر الحزب بينهم سلام عادل ,محمد حسين ابو العيس , عبد القادر اسماعيل , رحيم شريف , بديع عمر نظمي والعشرات غيرهم , يقتعدون ارضية الصالة. ادركت على الفور انها ضربة على الرأس , و من الرأس !
جرى اقتيادنا الى سرداب القصر ( واحد من سراديبه ) على بعد امتار مني كان الشهيد سلام عادل , يليه محي خضير ثم بديع عمر نظمي . في قاطع غير بعيد من السرداب كان ثمة أبو العيس , رحيم شريف و عبد القادر اسماعيل .
و بدأت "الحفلة" ,,,
بدأت العمل " اوركسترا " التعذيب. لم يكن ثمة ايقاع آلات موسيقية , بل ايقاع الكابلات , و عواء هستيري , و حشي , منتقم , اقرب الى عواء الذئاب ..
لا ادري كم طالت الحفلة . لكني عندما التقيت بديع في واحدة من غرف التحقيق , كان مجرد مضغة مدمّاة داكنة الزرقة, عارية ,,,
ساعرف فيما بعد ان بديع كان من بين المقبوض عليهم في مركز شرطة المأمون, و انه جرى امامهم, في ساحة المركز, اعدام الشهيد متي الشيخ, و هو يهتف بحياة الحزب الشيوعي العراقي .
لم تكن لي سابق معرفة ببديع حتى التقيته في مبنى صحيفة " اتحاد الشعب " في الشيخ عمر . كان قد جرى تنسيبه لتحرير صفحة " شؤون دولية " في الصحيفة " كان يحرر كلمة الصفحة ( لا اتذكر باي اسم كان يوقع , اذا كان ثمة اسم ) وتتضمن تحليلات و متابعات اصيلة, تعتمد على متابعة و ثقافة المحرر, و هي امور لم تكن تعوز بديع, بحكم تمكنه من اللغة الأنكليزية و اطلاعه على المجلات و الصحف الأجنبية التي كانت تصل الجريدة, فضلا عن متابعته لما كانت تزودنا به وكالتي تاس و نوفوستي السوفيتيّتين , و شينخوا الصينية , و ادن الألمانية الديمقراطية .
و من بين متابعاته المشهودة , تغطيته للصراع العسكري بين الصين و الهند على اراض متنازع عليها على الحدود بين البلدين و انحيازه الى الموقف الصيني في الصراع, طبعا ( علمنا , فيما بعد , ان الموقف السوفييتي لم يكن الى جانب التصعيد الصيني , و لعل هذه كانت واحدة من النقاط المختلف عليها بين القيادتين السوفييتية و الصينية التي انفجرت بشكل علني فيما بعد , و اتخذت طابعا مسلحا على قضايا حدودية , ايضا ! و قد اتخذ الامر طابعا مؤسفا لدرجة ان رسام كاريكاتور تصور ماركس يهبط بجناحين من السماء محاولًا الفصل بين الطرفين هاتفا : يا عمال العالم ... تفرقوا ! ) .
يضاف الى ذلك , افتتاحية طويلة لوكالة " شينخوا " الصينية بعنوان " تحيا اللنينية ", اعادت صحيفة " اتحاد الشعب " نشرها بشكل متتابع , ثم اصدرتها دار " بغداد " التابعة للحزب , على شكل كراس مستقل جرى التثقيف به . الأمر الذي لم يكن موضع ارتياح القيادة السوفيتية .
و مع انه ليس هنا مجال للدخول في تفاصيل هذه الخلافات داخل الحركة الشيوعية العالمية , الا انها شكلت مصاعب لبديع و لصفحته المعنية باخبار الأحزاب الشيوعية, (نشاطاتها و مؤتمراتها الخ...)
بعيدا عن السياسة و مشاكلها كانت لنا , انا و بديع , لقاءاتنا الخاصة. كان يدعوني إلى تناول الغداء في دار اخيه الراحل كمال (كانت على شاطئ الوزيرية قرب الجسر الحديدي* ) و هو كان يقيم فيها . كانت تتخلل هذه اللقاءات جلسات استماع موسيقية فقد كان مولعا بالموسيقى الكلاسيكية , التي كنت انا أيضا منجذبا اليها . كانت تستهويه الأوبرا الروسية , اوبرا " بوريس بوغدانوف " خصوصا , للمؤلف الموسيقي الروسي الشهير " موزورسكي " , و موسيقى فلم " ايفان الرهيب " للمؤلف الموسيقي الشهير الآخر , " بروكوفييف " . و انا مُدين لبديع و للصديق علي الشوك , بالكثير فيما يتعلق بتوسيع و تعميق ثقافتي الموسيقية, الكلاسيكية .
اكتشفت خلال هذه اللقاءات كم هو موسوعي الثقافة و المتابعة . كان بامكانك ان تسأله عن مخرج و ممثلي اي فلم منذ الأربعينات , ليقدم لك , على الفور , لائحة مكتملة مضافا اليها الدار الذي عرضت فيه و تاريخ العرض . كذلك الأمر فيما يتعلق بالكتب و المجلات بما فيها بعض الأنكليزية منها . كانت حياته تتلخص في الموسيقى و الكتب و السينما . بدا لي كأنه لم تكن له حياة اخرى . و مع انه تخرج محاميا, الا اني اشك انه مارس مهنة المحاماة. الا انه كان يتردد على نقابة المحامين صباح كل يوم , لعلّه لمتابعة الحياة السياسية في البلد. سألته مرة اذا كان قد خاض مغامرة عاطفية ؟ فروى ضاحكا : لاحظت و انا انتظر باص الأمانة ( كان الموقف قبالة دار والده في شارع عبد العزيز في الصليخ ) فتاة تنتظر الباص صباح كل يوم. تصعد فاصعد خلفها . تجلس فاجلس بالضبط خلفها . تكرر الأمر لأسابيع, حتى قررت ان ابدأ خطوتي التالية في التقرب منها , نزلتْ في باب المعظم فنزلتُ وراءها . داست فدست . اسرَعت ْ فاسرعتُ . , حاذيتها فتمهلت. وصلت جنبها ( حبستُ انا انفاسي منتظرا الذروة الرومانسية للمغامرة ) فاستأنف ضاحكا : و جنت ادوس ! " فانفجرنا ضاحكيْن معا !
افترقنا بعد قصر النهاية. انا هارب الى الكويت و هو الى نقرة السلمان . و عندما قدر لي ان التقيه خلال تردّدي على العراق بعد الـ 1968 , افتقدت فيه ذلك الأقبال على الحياة و تلك الضحكة الحسية المجلجلة التي اشتهر بها المقترنة بحركة يديه , كأنه يريد ان يحتوي العالم و يضمه الى صدره العريض .
بدا لي ان تجربة قصر النهاية خلّفت في روحه جرحًا لا يندمل و مرارة لم يكن يستطيع إخفاءها, كأن شيئا في داخله قد انطفأ. كان الحزب والحركة الشيوعية نسغ حياته , بل حياته كلها , وعندما وجد نفسه بعيدا عنها , اخذ يذبل ...
حتى رحل رحيلًا فاجعًا في حادث سيارة اليم ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يروي الصديق مهدي – ابو صلاح مدّ الله في عمره ( اخو الشهيد سلام عادل ) نقلا عن الراحل كمال عمر نظمي , اخ الراحل بديع , ان الشهيد أبو ايمان قضى ليلة الرابع عشر من تموز 1958 في دارة كمال . استطلع , يرافقه كمال بسيارته , بعض المواقع المهمة في بغداد : الدفاع , مرورا ببيت نوري السعيد في كرادة مريم , ثم معسكر الرشيد . عندما عادا اخبر الشهيد سلام عادل مضيفه : غدا الثورة ! سأل كمال ضيفه : هل اخبر بديع ؟ اجاب ابو ايمان : لا باس . شرط ان لا يغادر البيت ! ثم توجه الى فراشه . يقول ابو صلاح نقلا عن الراحل كمال : لم ينم بديع ليلتها .
ظل يتنقل بين الصالة و سطح الدار حتى سمع البيان الأول للثورة. كتبت عن ذلك في خاطرة بعنوان : " ذلك الرجل ...تلك الليلة " نشرت في "طريق الشعب " ثم في كتاب " فتى السبعين " .