ادب وفن

اتساع الافق الكوني في غرفة ئاوات / علوان السلمان

النص الشعري نشاط جمالي يتطلب ذهنية واعية مدركة لما وراء اللفظ وتشكلاته الصورية، فضلا عن استنطاق معطياته للكشف عن أبعاده الانسانية وفك مغاليقه الفكرية القائمة على الخطاب المضمر المستفز للذاكرة من خلال اختصار الزمن والكشف عن التراكم المعرفي الذي يحدد سلوكيات منتجه واتجاهاته عبر منظومة لغوية مجسدة للأفكار.
والشاعر ئاوات حسن امين في نصه الشعري "غرفتي" يخلق واقعا لا مألوفا من المكان، مشحونا بدينامية حركية فاعلة بتوظيف كينونات تواصلية انجزتها "تكوينات لسانية محكية أو مكتوبة" على حد تعبير جان ماري سيشايفر..
في هذا الكون الواسع جدا
وفي جغرافيا وطني الممتد
من سحيق الارض الى سحيقها
وفي مدينتي الجميلة كالمزهرية
لي غرفة بحجم الصومعة
فيها فراش..يسع اثنين
واعيش وحيدا
ولي فيها مكتبة صغيرةتحتوي
دواوين
شيركو بيكه س
وكاظم السماوي
ورامبو
وبعضا من الأوراق المبعثرة
فالشاعر عبر نصه المنولوجي المتكئ على ضمير المتكلم "الأنا" يبحث في المكان لتحقيق كينونته الذاتية بتحويل المحكي الذاتي الى موضوعاتي مع توظيف المكان بشقيه الجغرافي الذي تدور فيه الأحداث "المفتوح/ الموضوعي/ الواقعي" والدلالي المتجاوز لواقعيته بتحوله الى جسد لغوي يعتمد التأويل.. وهو يسير بمستويين بنيويين متحركين يشغلان فضاءات المكان.. أولهما يسير بخط أفقي متخذ الذاتية خطابا ممنهجا.. وثانيهما يعتمد البنية العمودية الكاشفة عما كان وما يكون.. حاضرا..
تفرش الغرفة مسودات قصائد
وبدايات لكتابة سيرتي
ورسائل من اصدقاء لي
اخذتهم المنافي
على الجدار
علقت صورا
لكوران
والسياب
واحمد شاملو
وصورة لي
فالشاعر يعتمد الاستعارة المكانية كوثيقة متعددة المستويات "اجتماعية ونفسية/ ثقافية/.." فيتصاعد البناء النصي بقصدية واعية للكشف عن التراكيب المكانية..
وفي زاوية من زواياها
هناك كيتار مقطوع الاوتار
يجسد حبي الازلي للموسيقى
وحلم مراهقتي الفانية
وشهادتي الجامعية الممزقة
في اطارها المكسور
ملقاة في ركن منسي من الغرفة
فالشاعر ينقل صوره من اطارها الحسي المألوف المؤطر باللحظة الشعرية المركزة على الجزئيات الى الاطار الذهني بقدرة تخييلية مكتظة بمراميها الدلالية والجمالية مع استعارة مكانية "مغلقة/ مفتوحة" تتمثل في "المدينة/ سوق الخردة/ الغرفة/ المكتبة..".. فضلا عن توظيفه تقنية التكرار للدلالة التوكيدية والبنية المكانية التي هي وسيلة الانفلات من دائرة القلق التي تشكل بؤرة شعرية حالمة عبر وحدة جدلية بين الذات والموضوع المقترن بالذاكرة المكانية المضيئة للقيم من جهة وبين الواقع بموجوداته والرمز الدال المكتنز بالدلالات المتجاوزة لحدود الذات من جهة أخرى.. من خلال تناوب الألفاظ واعادتها في سياق التعبير بحيث تشكل نغما مموسقا بقصدية يلتزمها المنتج تنحصر في توكيد المعنى المبني على رؤية حوارية تكشف عن تجاوز المكان كبؤرة ثقافية والذات الخالقة لنص مكاني قائم على وقائع تشكل نسقه واحداثه الاستدلالية مع تحديد العلاقة الاشارية الدالة عليه "فراش/ زاوية من زواياها..".. كي يمنحه بعدا ثقافيا واجتماعيا ونفسيا..
لذا فالمنتج "الشاعر" يجعل منه بؤرة فاعلة ومتفاعلة بوصفه جزءا من العملية التواصلية..
هكذا هي غرفتي
متواضعة.. راقية
فارغة.. مكتنزة
جدرانها من خجل الزمن
صدئة..
فالنص يقوم على المتضادات المتصارعة بدينامية حركية عبر بناء متعدد المستويات يمكن ادراكها من خلال الوعي الجمالي الذي هو علاقة بين مستهلك ونص يسعى الى تأسيس قدرة من الجمال والشعر المنتج الفني الذي تتجلى فيه القيم الجمالية والروحية بمكنوناتها..
بعد حفنة من السنين
سيأتي ابني أزيز
ويدق بابها الموصدة
وعندما ييأس من عدم فتحها
يكتب على بابها
ها هنا عاش ابي
ردحا من الزمن
في متحف الحياة..
فالنص يشكل تجربة كاشفة عن الاشياء المتفاعلة في ذات الشاعر بنسق جمالي وموقف انساني بكل تشكلااته المتمثلة في "الباب" الكيان الرامز لوجود مكاني له ابعاد ملموسة تشكل سلطتها على الذات التي تخلقه وفق معطياتها.. انه رمز لتعزيز منطلق رؤيوي معبر عن حالة الانغلاق والانفتاح الدالة على الحركة والبنية الفاصلة بين فضائين "المفتوح/ المعلن/ الخارجي" و"المغلق/ الخاص/ الداخلي".. وهناك المكتبة واحتضانها الوجود الكوني المقترن بالصور ..
وبذلك قدم الشاعر نصا يضيء هاجسه المكاني المتحاور والذات الانساني عبر ذهنية تتجاوز الموضوعي الى ما ورائه واخضاعها للتأويل الذي هو "فن تفادي عدم الفهم" على حد تعبير شلاير ماخر