ادب وفن

جمالية المفارقة في «يا للغرابة» لمجيد حميد الجبوري / حيدر الاسدي

المفارقة paradox مصطلح دخل الى الدراسات النقدية متأخراً وقد نظر في مفهوم المصطلح العديد من النقاد والأدباء في الأدب المعاصر، ولكن للمصطلح جذورا قديمة حتى ان ارسطو أورد المفهوم في كتابه الأخلاق وعدَّها الاستخدام المراوغ للغة وهي التي تندرج تحت الذم في صيغ المدح والعكس صحيح، ولعل أبرز من ناقش المفهوم وأغرقه ايضاحاً الناقد "دي سي ميويك" الذي ترجم كتابه "المفارقة" عن طريق عبد الواحد لؤلؤة ضمن موسوعة المصطلح النقدي وقد ذهب ميويك إلى أن للمفارقة ثلاثة عناصر تميزها منها تميز المخبر والمظهر اذ يقول مرسل المفارقة شيئاً ما ولكنه في اصل الداقع يقول شيئا اخر مختلفاً تماماً وثانيها العنصر الكوميدي .وايضا المفارقة عند فريدريش شليجل إدراك الحقيقة أن العالم في جوهره ينطوي على تناقض اذ يرى ان المفارقة محاكاة ساخرة وهزلا يحاول ان يرتفع فوق ابداع الانسان وفضيلته. أما أوجست فيلهلم، فانه يرى ان المفارقة توازن بين الجد والهزل. ويشير مفهوم المفارقة حسب البروفسور المصري اسامة عبد العزيز جاب الله إلى:"الأسلوب البلاغي الذي يكون فيه المعنى الخفي في تضاد حار مع المعنى الظاهري. وكثيراً ما تحتاج المفارقة وخاصة مفارقة الموقف أو السياق، إلى كدّ ذهن، وتأمل عميق الوصول إلى التعارض، وكشف دلالات التعارض بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي الغائص في أعماق النص وفضاءاته البعيدة"، بعد هذه المقدمة عن المفارقة سادخل ميدان المسرحية المميزة المعنونة بـ "ياللغرابة" والتي صدرت ضمن مجموعة مسرحية تحت عنوان "ثلاث مسرحيات" للدكتور مجيد حميد الجبوري التدريسي في كلية الفنون الجميلة "جامعة البصرة" وقد صدر الكتاب عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع وضم ثلاث مسرحيات للجبوري هي "الصدى- ياللغرابة-في الغرفة" ساتطرق بهذا المقال لمسرحية واحدة وهي كما اسلفت عنوانها "ياللغرابة" فهي مسرحية تحفل?بالمفارقة وجدل اللغة والايقاع الجمالي الذي معه لا يمكن ان تقتطع القراءة وانت تتسلسل بمتابعة ما يجري ما بين الاثنين "الأول والثاني" فالنص يطرح الفكرة وما ينافي الفكرة كما في بداية النص المسرحي فالفكرة "نأكل" وما ينافي الفكرة "التخمة" وشخصيتا الأول والثاني هما تجريد للعنوان الحقيقي المزمع طرحه عند كل الشخصيات المسرحية، الا أن تجريدهما من العناوين الحقيقية يعطي البعد الدلالي لفكرة المسرحية، لينتقل المؤلف من خصوصية الحديث لعموميته عبر مخاطبة المتلقي وتحريك الساكن لديه واستثارة الافكار داخله لا سيما الأفكار القابعة لديه بدون حركة، فالمؤلف سعى لتكسير الجوامد التي نحفل بها داخل افكارنا، يقول على لسان احدى شخصياته:
الثاني:"بدهشة"، وهل يوجد أناس يشعرون بالجوع في عالم الإنترنت والعولمة؟.. أمر غريب"!
ان التلاعب بالألقاط والمعاني جاء بصورة جمالية عالية على مدار المسرحية، فالتحول الدلالي من الجوع المادي الى الجوع الفكري والانتقالات هذه دائما ما تأتي بصورة تهكمية ساخرة، فالنص ذو حمولة فكرية وفلسفية عالية ولكنها تطرح بمنتهى البساطة التي يمكن ان يكون معها المتلقي منجذباً مشاركاً، فالكاتب تلاعب بالمفردة اللغوية باستمرار فهو يطرح ما ظاهره حسن وامتداح وما يبطن بنية عميقة ساخرة، يقول في النص:
الثاني: قلت يا لسعادتهم.. فهم لا يعانون من التخمة
الأول: آه.. أنت على حق يا لسعادتهم.. فهم الوحيدون الذين يستحقون الحياة ؛ لأنهم يشعرون بقيمة الأشياء فهم لا يستهلكونها كثيرا.. انهم مقتصدون في كل شيء ؛مقتصدون في الطعام، مقتصدون في الملابس… مقتصدون في التفكير؛ فلا يبعثرون أفكارهم هنا وهناك.. وهم خلوقون لأن الحياة أخذت منهم كل شيء".
الاقتصاد هنا مذمة واضحة لا سيما اذا كان في التفكير كما يقول في الحوار أعلاه "مقتصدون في التفكير" هذا يعني انهم سذج بلهاء، لا يعملون الذهن وبالتالي لا يعانون تخمة الافكار والمعاني والمعرفة.
ان الجبوري من خلال نصه هذا يحاول ان ينسف روتين الانسان اليومي القاتل، والتكرارية المملة التي اصابت الفرد جراء الجمود وعدم البحث عن التغيير.
الأول: يجب أن يكون نومنا بلا أحلام.. لأننا لو حلمنا فسوف نستعيد حياتنا الرتيبة هذه… فيتساوى عندها النوم واليقظة… وتصبح اليقظة نوما؛ والنوم يقظة.. الأفضل أن نبقى يقظين علنا نهتدي لشيء يخلصنا مما نحن فيه؛ لهذا فأني أرى أن فكرة النوم فكرة سخيفة".
ان عمق المعاني بمفردات بسيطة الفهم هو ما ميز هذا النص، فلا تجد أي حوار في هذا النص الا ويشدك له ببلاغته العالية والمتضمنة للمفارقة في أحايين كثيرة، وكأنك تستمع لنصائح فيلسوف حكيم، وليس كاتباً لنص مسرحي وحسب، وهذا الامر جاء طبعا نتيجة خبرة الكاتب عبر سنوات الحياة وفي الثقافة والفن والقراءة وتشكيل موقف واضح له ازاء الحياة وما يدور في فلكها.ان الضدين هما ما يميزا النص فقد سعى للكشف عنهما توالياً في النص والمفارقة جاءت عبر هذين الضدين في اكثر من موقف بين الاول والثاني.
الأول: ماذا قلت؟
الثاني:"بشرود"، يا للغرابة
الأول:"ببرود" ما وجه الغرابة؟
الثاني: أنت معقد وأنا بسيط.. ومع هذا فنحن معا…. أليست حالة غريبة هذه التي نعيشها؟ الأول: لكننا نعيشها… شئنا أم أبينا؛ فنحن نعيشها". في الحوارات اعلاه حتمية لابد منها في الحياة وهي مفروضة، ان يعيش النقيض مع ضده، في ان واحد، وهذا هو وجه الغرابة؟، أهي غرابة فعلا أن يعيش المعقد مع البسيط، ام انه منطق الحياة المفروض عمليا على الأفراد؟، أليس هذا فكر اجتماعي عالٍ وكبير يطرحه المؤلف في نصه المسرحي، الا يجب أن نقول ان هذا النص تجاوز ما هو مسرحي الى ما هو ابعد من ذلك؟ ان في هذا النص تساؤلات كبيرة بعمق الحياة التي ن?يشها، وهو يدعو المتلقي للتفكير، والاشتراك بالنص، فان السخرية وتراشق التهكم بين الاول والثاني هو ليس لشخصيات تلك المسرحية بل هي موجهة لذات المتلقي كما ان الجبوري قد استخدم المفارقة في ابراز التناقضات "غبي وملهم"، "بسيط ومعقد" وما يمكن التقاطه من جمالية المفردة والحوار هو الحوار الاتي الذي اورده المؤلف:"جبانة، جبانة أنت أيتها العذابات، أنت حقيرة، تحبين الجميع.. ولا تتركين أحدا بحاله… انك تتسـلين بنا".
ان الرصيد المعرفي والفكري لكاتب النص منحه سمة الجمالية العالية في استخدام الحوارات والجمل المسرحية بما يصدم المتلقي ويدخل لقلبه وعقله بدون استئذان، فلا يفوتك حوار الا وفيه صدمة للمتلقي عبر كم الالم المطروح في النص والذي تهكم عليه الكاتب بصورة يحتضن فيها الالم السخرية، ويذهب الجبوري في بعض حواراته الى عبث الانسان بهذه المعمورة وعدم تفهمه لوجوده: فيقول في النص.
الأول: تغزونا وندافع… تغزونا وندافع.. ماذا لو سئمنا هذا الوضع؟‍
الثاني: بسيطة.. نتبادل الأدوار.. تغزونا أنتم.. ونحن ندافع.. تغزونا وندافع.. تغزونا وندافع.. فكرة خلاقة، أليس كذلك"؟‍
هذه الحوارات أروع ما جاء في المسرحية وهي تجسد تاريخ البشرية والتسلطية العالية، وعبث سعي الانسان بالحصول على السلطة غبر منافذ القوة والتعسف "والغزو" فماذا بعد ان تهيمن القوة العسكرتارية على العالم؟ نتبادل الأدوار معها! وهكذا دواليك نضيع في اتون الحرب كما ضعنا بالفعل، ويستمر الكاتب في صور التهكم التي يقدمها محفوفة بالالم الأول: لمـاذا الحبـل؟… ألا يضعون في ناطحات السحاب… مصـاعد كهربائية؟ الثاني: ألـم أقل لك أن الليلة مدلهمة… وأن الأمطـار غزيرة؟!
الأول: ومـاذا يعني ذلك؟
الثاني: ذلك يعني انقطاع التيار الكهربائي -حتمـا- كمـا يحدث عندنـا دائمـا".
نتلمس الانتقال من الصورة الرومانسية الى التهكم والسخرية الذي يحيل المتلقي الى وضعنا وآلامنا كعراقيين وكأني اشاهد النص على خشبة المسرح وقد قال الممثل حواره اعلاه فتصاعدت ضحكات الجمهور... احس بهذا الشعور بقوة لما لصدق المفردة والجملة المسرحية من تأثير وحسن صياغة. وأقول ربما وأقول "ربما" ان هذا ما أراد أن يقوله المؤلف في نهاية المسرحية "غبيـة كالعلاقة التي تربطنـا.. غبيـة كالسنين التي عشناهـا سابقـاً.. غبيـة كالحفر التي دفنـا فيها أنفسنا… غبيـة كهـذا المكان الذي نحن فيـه… أتعرف سبباً لوجودنـا هنـا.. لمـاذا - نحن - هنـا… لمـاذا لم نكن في مكان آخر…
الثاني: هكـذا نحن منذ خلقنـا موجودون في هـذا المكان ولا نستطيع مغادرته….
الأول: لمـاذا… قل لي لمـاذا؟
‍الثاني: لا أدري… ربمـا هو قدرنا… ربما لأننـا تعودنـا هذا المكان… أو هو تعودنـا…". فهل فعلا نحن جبلنا على هذا ولا نستطيع من تغيير قدرنا ..هل تعودنا المكان...ام هو تعودنا؟، أليست هذه أسئلة عن أهمية وفحوى وجود الانسان، أليست هذه أسئلة يطرحها المؤلف لتكون مدعاة للمناقشة والطرح بروية وتأمل، أن ما تم طرحه في اعلاه هو معطى وواقع ولكن ما العمل؟ النص لم يترك المتلقي هكذا عائماً لأنه نص متماسك فكرياً وجمالياً ففي الحوار الاتي ياتي لنا العمل المطلوب "الأول:"مستمرا بالضحك" دعها تنفجر… أريدها أن تنفجر.. علها تغير شيئا?من وضعنا المتردي هـذا.. دعها تنفجر…علها تشوه وجوهنـا الكالحة؛ فنعيش بوجوه أخرى؛ غير التي نحملها.. لقد مللت وجهي….. ومللت وجهك… ألم تمل وجهك أنت أيضاً"؟‍.
انها دعوة لثورة التغيير على انفسنا ، دعوة لكسر أقنعة الوجوه الكالحة لنحصل على وجوه جديدة نعيش فيها بعيداً عن الزيف.
ان اقل ما يقال عن النص المسرحي بانه يتميز بالفرادة من حيث الصياغة وزخم الافكار المتلاحقة فيه، فضلاً عن صياغة الجمل والمفردة بصورة لا يعطى معها المتلقي فسحة للراحة والاستجمام وهو يتجول في أحداث النص.