ادب وفن

النص الدرامي والاخراج / سلام حربه

هناك مؤلفان للنص الدرامي، المؤلف الأصلي هو كاتب النص أو ما يسمى على الشاشة بالسينارست، وهو غالبا ما يكون مؤلفا للقصة وصانعا للحوار ومصمما للمشاهد وكل هذا يحصل على الورق، والكاتب يستثمر خياله الابداعي في خلق واقع مفترض محايث للواقع الموضوعي يتعامل معه جماليا ومعرفيا واخلاقيا بحيث يستطيع ان يوصل ما يريد من أفكار وأحداث ورؤى في تناول المشاكل التي يعاني منها المجتمع ويخلق حالة من الاغتراب النفسي ويعمد الى اثارة الاسئلة لدى المتلقي وهذا الاخير يندفع في البحث عن حلول وسبل لتغيير هذا الواقع ويتجلى ابداع الكاتب في قدرته على خلق حالة من الشد الدرامي لدى القارئ، مخرجا كان أم فاحصا، وترقب ما يحصل وبالتالي تحقيق ما يرمي اليه العمل الفني وما يحمله من رسائل اجتماعية او سياسية ومن قيم معرفية وفكرية وكلها ترتقي بذائقة المتلقي وتنمي مشاعره واحاسيسه وتحصنه اخلاقيا ووطنيا وتبقيه ملتصقا بأرض بلده..
ان رسالة كاتب النص لا تصل كاملة الا من خلال مخرج يقوم بتحويل ما مكتوب من كلام على ورق الى صور بصرية مشحونة بالحركات والايماءات والانفعالات النفسية والجسدية..
ان مهمة المخرج عسيرة جدا ويجب ان يمتلك موهبة ابداعية وخيالا محلقا حتى يستطيع ان يوصل ما يحمله النص المكتوب من شفرات ودلالات وقيم جمالية ولذا لم يكن اعتباطا حين يطلق على المخرج المؤلف الثاني للنص فبدونه لا حياة لكلام مكتوب على الورق ولا قيمة حقيقية لأي حرف او كلمة فهو نافخ الروح في رماد الكلام المنشور على حبال الورقة ومجسد لوقائع واحداث وافكار ضمن ما نحته الكاتب الاصلي من صياغات تعبيرية وخيال ذهني متدفق، لكن المخرج بسحره وادوات خلقه يكو هذا الخيال لحما ودما ويمنحه صوتا يحتج به ويغني ليطرب الاخرين ويحاور اصدقاءه وخصومه ويهمس به بأذن الحبيب أو الحبيبة بمعونة عين كاميرا تلتقط دقائق الامور ونبضها وفريق من المساعدين والفنيين والممثلين واجهزة التسجيل والانارة والمونتاج وملتقطات الصوت وعوامل اخرى كثيرة ليتجسد الكلام اخيرا صورا ومشاهد مترابطة تحبس انفاس المشاهد وتجعله لصيقا بالجو العام للمسلسل او الفيلم وفي الثنايا النفسية للفنانين المجسدين للأدوار ويكون من ضمن المفردات البيئية التي يتحركون بها..
ان دراسة الأدب جامعيا لا تخلق أديبا، شاعرا كان ام قاصا ام روائيا، ودارسة الفن لا تلزم بالضرورة ان تخلق فنانا وكل ما تعمله الدراسة الاكاديمية هو صقل لموهبة الاديب وتمد ابداعه ومخياله بمفردات لغوية تديم رؤاه وتوسع مداركه وقد قال الحكيم قديما حين تتسع الرؤية تضيق اللغة: وكذا الحال بالنسبة الى الفنان مخرجا كان ام فنانا تشكيليا او موسيقيا وكل صنوف الابداع الفني ، الكاتب الناجح هو المسلح بموهبة الابداع والخلق والمحمل بالثقافة الموسوعية وبالأفكار المشاكسة والخيالات المحلقة والقادر على الانتقال المفاجئ تعبيريا مع تغيرات الواقع وتقلباته المفاجئة وهذا ينطبق على الفنان ايضا ،المخرج العبقري يجب ان يمتلك المؤهلات الابداعية في ان ينزع جلد الكلام كل حين ويلبسه رؤاه وتصوراته ويخيط له اجنحة طيران ويحافظ على الروح المبثوثة في النص من الموت والاحتضار..في العراق هناك كتاب عديدون لا يمتلكون موهبة التأليف ولكنهم يحاولون ان يطبقوا ما تعلموه من بطون كتبهم الدراسية بإنتاج نصوص درامية باهتة ضمن قياسات مسطرية تلقينية لا يمكن الحياد عنها ولذلك يظهر النص جامدا بلا عقد سردية ومترهلاً زمنيا وتكتنفه فوضى استسهال الكتابة ، وان تعامل مع هذا النص مخرج بأدوات فقيرة ونقص في الموهبة والابداع ولا يمتلك سوى ما تعلمه من الكتب ومن افواه الاخرين ومن تجربة مخرجين فاشلين فسيخرج العمل مشوها ومنذ المشاهد الاولى وهذا ما نشاهده في العديد من الأعمال الدرامية العراقية افلاما سينمائية كانت ام مسلسلات تلفزيونية ..من يراقب الفن الغربي سيجد بان الاعمال الفنية المنتجة هناك تمتاز بالحداثة الدائمة وتجدد في المواضيع المتناولة، والكتاب المبدعون هناك بعد ان استنفذوا كل مواضيع الواقع الاجتماعي وتقلباته في الاف وعشرات الالاف من الاعمال ولم يتركوا اية شاردة او واردة ظهرت هنا او هناك دون ان يجسدوها في الكتابة الفنية ولكنهم خوفا من الاعادة والتكرار ابتدأوا بابتكار مواضيع تقترب من الفنتازيا واللامعقول والواقعية السحرية واعادوا صياغة احداثهم التاريخية واساطيرهم وملاحمهم برؤى جديدة تنسجم مع مناهج ما بعد الحداثة ونقلوا معهم نوعيا فنون المشاهدة وارتقوا بالذائقة الى اعلى مستوياتها وهذا تم من خلال وسائل اخراجية استخدمت فيها كل التقنيات العلمية الحديثة فكانت هناك الصور المجسمة والشاشات الخاصة وعدسات الرؤية ،وفي كل يوم جديد هناك لمسة ابداعية فنية جديدة تكون فتحا ليس لفنون بلدانهم فحسب بل للبشرية اجمع..ما زال الانتاج الفني العراقي يراوح في مكانه فالمواضيع التي يتم تداولها هي هي، والنصوص التي تناقش الزمن الجديد تحاول ان تستنسخ الواقع بكل قبحه وجرائمه وفساده بطريقة تخلو احيانا من الابداع والتحليل الجمالي فجاءت اعمالا باهتة وسطحية تبعث على القرف والغثيان ويهرب البعض من المؤلفين ، وهم يعدون على اصابع اليدين، الى النصوص التي تميل الى تجسيد المواضيع والاحداث التاريخية لان الكاتب يجد امامه مادة جاهزة لا تحتاج منه سوى اعادة صياغتها ضمن مشاهد وحوارات وربما لا يكون امينا في تسلسلها التاريخي وقد يحمّلها الكاتب رؤاه ومعتقداته التي قد تتنافى مع طبيعة الحدث وزمن وقوعه وبالتالي يسقطها في دائرة الزيف والتحريف، كما ان قياسات الاخراج بقيت عند الكثيرين كما هي عليه منذ اربعين او خمسين عاما دون مغامرة التجريب ،فاللقطة الاخراجية ميكانيكية باهتة ضمن سياقات السائد الفني وعين الكاميرا عمياء او تعاني من قصر نظر حاد والصورة رتيبة ومملة لا تعمل على ادامة جذوة التواصل مع المشاهد.. التاريخ يصنعه المبدعون، وفي الفن تأليفا واخراجا نحتاج الى طاقات ابداعية جديدة وتقنيات حديثة كي نستطيع ان ننتج اعمالا درامية ناجحة تستطيع ان تنافس ما ينتج حاليا في منطقتنا العربية أو ما يحيطنا من بلدان، لكن كل هذه الامور تحتاج اولا الى نظام سياسي جديد ينزع عنه ثوب الطائفية ويرتدي المدنية والمواطنة والعدالة الاجتماعية لباسا دائما، هذا النظام هو الذي سيدفع بالفن الى مراحل متقدمة وينشئ مؤسسات انتاجية قادرة على تفعيل الحياة الفنية العراقية ويعطي الفرصة كاملة للكتاب المبدعين والمخرجين ذوي الرؤى الحادة في الاخذ بيد الدراما وثقافة الصورة نحو افاق المستقبل، أما ان بقيت الامور على هذا الحال والفوضى تضرب بجنبات الواقع بلا هوادة مع غياب ملامح الدولة فسيبقى كتاب ومخرجو "الصدفة" كحال سياسيينا هم في الواجهة دائما وابدا وسيقذون بالفن المحتضر نحو الهلاك والدمار وفنون التلقي والمشاهدة نحو الهاوية والمجهول..