ادب وفن

السطح في الفنون التشكيلية ( القسم الأول ) / ياسين النصير

ـ1ـ
قبل كل شيء نعيد تأكيد مفهوم تداوله النقد الحداثي من أن اللوحة التشكيلية هي فضاء مكاني، بمعنى أنها تُلمس، وتُرى، وتُعلّق، ويتم تحريكها، ولها طول وعرض وسمك وحجم، ولها بعد ذلك إطار وقماشة، ومواد وألوان أخرى، وتدخل في تركيبتها عمل التيوب الجاهز أو الأيدي الخالطة، ويتم استقدام الألوان لها والمصنوعة في أمكنة بعيدة، ويستورد قماشها وأطرها، كل شيء فيها يتم بعمل، هذا على المستوى البناء الخارجي للوحة، بمعنى علاقة أولية بين السوق واللوحة، أما على المستوى الفني، فالإطار يعني الفكر الذي يهيمن على موضوع اللوحة، يعني القوى المهيمنة، ويعني كذلك الحدود، وكما يعني الأفق المعرفي الذي تتجمع فيه الكتل والأفكار، ويبتعد عن التحديد الصارم فقد يكسر أو يخترق أو يدمج، ولكن لابد من وجوده فالأفكار بالرغم من حريتها عندما تتحول إلى لون ومساحة ونقاط وحروف وخطوط، لابد من شيء ما يموضعها ويحدد تكوينها الكلي، وتصبح القماشة الأرضية المسرحية التي ستجري عليها خيول الأفكار والألوان، هذه اللوحة الممسرحة مكانيا هي ذات أفق تنظيمي ومخطط وموزع دراميا بين أجزائها ومساحاتها وعبثا نتصور أن المسرحة شيء اعتباطي لذلك يلجأ الفنان قبل بدء الرسم بتحديد مساحة قماشته، وقد يؤطرها قبل البداية. فالمساحة الممسرحة التي تتصاهر عليها الألوان معبرة عن فكر الفنان والمشاهد معا، وأما الألوان فهي المجالات المحسوسة التي تتداخل ألوانها ونسبها مكونة نسيجا ذاتيا لا يعرف أحد غير الفنان تراكيبه، فيما الخلطة خلاصة لرؤية الفنان في توظيف حساسيته الجمالية لاستخراج اللون المناسب لفكرته، وهناك الفنان، الذي يعيد خلق كل هذه المكونات ويصهرها في بوتقة فنية فكرية، لاستنباط رؤية جمالية للعالم. كل هذه التركيبة العجيبة من الألوان والمواد والفنان والأفكار توضع على سطح اللوحة، ويبقى على الفنان تشكيل الكيفية التي يصنع منها تكوينات قابلة للتأويل.
تشكل المواد الأولية وطريقة تجميعها المحسوسة، العمل الفني، فالعمل الفني مجموعة مواد وضعت لصياغة رؤية، شأنها شان الكتاب كما يقول هايدغر المعروض في المكتبة، يمكن تلمسه وتحسسه ورؤيته وتقليبه وتصفحه،عمل فني يشترى ويباع كأي سلعة. بينما يمثل الفنان العقل المنظم لتركيبة وخلطة فكرية يستنبطها من تصاهر ألوانه وكتله، وتكون معبرة عن فكرة ما، وهذا ما يطلق عليه الفنان، أي الذي يجيد إنتاج عمل بخصوصية تنفيذية مغايرة لأية طريقة أخرى، أنه الصانع الماهر، الكائن الذي فكر بالعالم في لحظة معينة، والتكوين الذي يرى من خلف العيني والذي يعيش هناك في المخيلة والإدراك، الفنان أثناء عمله ينفصل عن العالم ليعيش اللحظات الكونية التي تتداخل فيها كل الموجودات ضمن إطار المنفعة الإنسانية التي يمثلها في لحظة اندماجه الكوني. أما اللوحة التي نراها وقد اكتملت، فليست هي تلك المواد التي تعامل الفنان معها، كما أنها ليست مجموعة المواد المختلطة بنسب جمالية التي عملها الفنان، ثم وهذا الأهم ليست الفنان الذي عملها، إذ أن اللوحة الفنية ما أن تكتمل، شأنها شأن أي مخلوق، حتى تنفصل مشيميا عن حاضناتها،هل شبه خلق الإنسان الطين؟ وهل تشبه السماء زرقة البحر؟،وهل يكون الجبل مجرد نتوء عن السطح؟، وهل النهر مجرد مجرى مائي للعمق؟،لا كل هذه التكوينات أفكار قبل ان تتجسد، ومواد أعدت الطبيعة صياغتها مرة واحدة لتمكن الفنان من إعادة صياغتها ملايين المرات،الطبعية معطاة بتكوينات قبلية، وعلى الفنان ان يخلق يوميا طبيعته التي يراها وقد ملأت الكيانات كلها. لتصبح مستقلة بذاتها، ترى دون موادها وفنانها. هذه الوضعية يسميها هايدغر الفنية، والفنية كما يقول هايدغر، ليست العمل الفني ولا الفنان، لأن العمل الفني شأنه شأن أي كتاب يمكنك أن تشتريه وأن تقرأه، والفنان ليس إلا ذلك المؤلف الذي يموت بعد إنجاز عمله، كأي نحلة منتجة للعسل، أما الفنية، فهي من نصيب المشاهد الذي يعيد خلق اللوحة ويضيف إليها جمالية وفهما وتصورا ورؤى، فالفنية نتاج لقراءة المشاهد، والمشاهد لا يتعامل مع الفنان، ولا مع المواد، يتعامل مع البنية الجمالية والفنية التي صاغ الفنان بها رؤيته للعالم في اللوحة، وهذه الرؤية يعاد إنتاجها بوصفها شيئا مطلق الحضور، كلما كان هناك مشاهد جديد له رؤية جديدة، كانت ثمة لوحة جديدة، هذه الفنية المعقدة الفهم هي ما سنعالجها في هذه المقالة، عبر محورين:
المحور الأول: السطح والفنية القديمة.
المحور الثاني: السطح وفن ما بعد الحداثة..
ـ2ـ
ثمة، مجموعة من الأوليات على مشاهد اللوحة الفنية أن يدركها،وهي وحدها التي تؤهله لأن يكون مشاهدا/ قارئا، للنص/ اللوحة.
نقف أمام اللوحة كما لو كنا غرباء عنها، حين نستعمل حاسة الرؤية فقط، ثم نغادرها لغيرها، مستلطيفن هذه دون تلك، وبعد أن ننتهي من استعراض اللوحات، يتولد لدينا انطباع ما، نلخصه بكلمتين: جيد أو عادي، هذا السياق لرؤية المعارض الفنية معمول به في كل مجالات المشاهدة أو القراءة، في المسرح، في البالية، في الأوبرا، في فضاء المدينة لمشاهدة كرنفال، أو منحوتات الرمل والثلج، أو كتابات الجدران، إلا أن هذه الطريقة تنتزع منك ذاكرتك وتمنحها للوحة دون أن تأخذ من اللوحة ما يغني ذاكرتك، فالمشاهدة مشاهدتان: سلبية وهي المعمول بها في كل الحالات، وإيجابية وهي ما نود توضيحها هنا.
الأولوية الأولى: أن المشاهد لا يشاهد لوحة إلا ويعتبرها انه فنانها، أي أن فن المشاهدة هو خلق لها، أو أن يستحضر المشاهد ثقافة واعمال الفنان من خلال رؤية لوحته، هاتان الطريقتان تضعان المشاهد أمام مسؤولية فعل المشاهدة، وإلا لا معنى من أن اقصد معرضا أو متحفا دون أن يكون لدي سلاح ثقافي يمكنني من اختراق المنتج الفني كي أضع بصماتي عليه،وستكون هذه البصمات هي تقبلي او رفضي لجمالية اللوحة، المشاهدة فعل مشاركة داخلي لذات المشاهد، وليس فعلا للمشاركة الخارجية لفعل الفنان، وإذا لم تستطع أن تدخل برؤية صوفية وجدانية للوحة لا يمكنك أن تقرأها، أوأن تفهم العلاقات الفنية التي دبج الفنان بها تناسق ألوانه، وتوزيع كتله، والانسجام الداخلي لابعادها،وتكوين موضوعه، أنت لا تعرف معنى الأخاديد والخطوط المتصاعدة أو النازلة مثلا وفيما إذا كان الفنان يبدأ يحرك فرشاته من الأعلى إلى الأسفل أو من اليمين إلى اليسار أو بالعكس،كل هذه الأفعال لم ترها ولكنك يمكن معرفتها بحاسة تمييز الحركة اللونية على سطح اللوحة،اللوحة مكان تجري عليه الرياح والعواصف والأفكار والمياه والأتربة والغبار، ومن خلال تفحصك الدقيق تعرف إلى أين تتجه ومن أي مركز آت، وتعرف كذلك نسب تدرجاتها اللونية عندما تكون شديدة التأثير أو قليلة، اللوحة مسرح تجري عليه خيول الفكرة وتشخيصاتها وحواراتها وعليك معرفة النسب المحتدمة من غيرها فالكتلة الغامضة الداكنة ممتلئة بالرعود والابهام والغيمة أفق والأرضية عمق، هكذا تكون رؤيتك للوحة مصحوبة بمجموعة من الخيالات التي تعيد تركيب اللوحة وتخلقها، كما عليك ان تفهم كيف رأى الفنان الكتلة وقد محا حدودها الخارجية ليدخلها كالسورات المائية في كتل أخرى مجاورة دون أن يدمجهما، هذا الذوبان للحدود بين الكتل هو عولمة فنية آتية من العولمة التي محت بالاسواق العالمية والتجارة والحدود، والقوميات والأديان والأسواق الضعيفة، هذه البنية الفنية المتداخلة السورات والكاسرة للحدود تعطينا تصورا على أن الفكر العولمي الذي يحاول أن يحوي المفترقات في سياق اتصالي واحد، هو الذي يفجر في المشاهد تصورات قد لا تكون موجودة في بنية اللوحة، لا أشاهد لوحة دون أن أعتبرها لوحتي، هذا هو قانون المشاهدة اليوم، فإقصاء الفنان من تأثيره علي وأنا أشاهد لوحاته مهمة نقدية، كي انتبه لانعكاسات اللوحة علي،وانتماء اللوحة لي يعني أنني أستطيع أن أدمج رؤيتي النقدية بما يحصل من تصاهر واحتدام فني داخل اللوحة.لا يمكنك أن تشارك في أية معركة ما لم تنتم إليها، ولكن طرق الإنتماء مختلفة، قد تكون جنديا، أو مراسلا حربيا، أو صحفيا، أو قارئا، كل المواقع هي زوايا رؤية مشاركة لفنية اللوحة/ المعركة، وبالتالي لتفسيرها وقراءاتها بما يخالف المعنى، وحتى المحتوى الذي أراده مؤلفها أو فنانها..هذه أولى الأولويات،
الأولوية الثانية، هي أن تكون لدى المشاهد معلومات عن الأدوات الفنية التي يتعامل معها الفنان، وهناك معلومات مشتركة بين كل الفنون، وهناك معلومات مختصة بفن من الفنون، والمشاهد غير العادي هو من يمتلك معلومات مشتركة بين الرواية والمسرح والنحت والتشكيل والشعر، وهذه الفنون مؤلفة من حقلين كبيرين: حقل الزمنية وهي الفنون السردية، وحقل الفضائية وهي الفنون الفضائية، والدمج بينهما يتم عن طريق الفنية المشتركة، فالفنون الفضائية كالرسم والعمارة والمسرح والباليه،تجد في الشعر ملتقاها الجمالي والتعبيري، وفي السرد فضائيتها، والفنون السردية الزمانية كالرواية تجد في النحت والرسم والعمارة هيكليتها وفضاؤها المتخيل، لذلك يتوجب على المشاهد أن يكون مثقفا بما هو مشترك بين الفنون. يقرأ رواية فيتخيل عمارة من طوابق-فصول- وسكان- شخصيات- وفقرات- تجمعات- وهكذا يمكنك أن تقرأ لوحة فتح في ألوانها قطعة موسيقية أو فضاء تعبيري عن طبقات اجتماعية،
الاولوية الثالثة، ألاّ يضع المشاهد العربة قبل الحصان عندما يشاهد لوحة،عندئذ لن يجد حوذيا يقبل قيادة عربته في شارع الثقافة، ولن يجد عربة متحركة تنقل أفكاره لأزمنة وأمكنة جديدة، لأن العربة الساكنة ليست عربة إلا بالاسم، والحوذي الذي لا يمسك مقودا ليس حوذيا إلا بالصفة، عليك أن تشاهد اللوحة بمعزل عن مدرستها الفنية،أو اتجاهها - بالرغم من معرفة مدرستها واتجاهها والمواد التي صنعت منها - أي لا تضع مدرسة اللوحة أمامك وقبل مشاهدتك اللوحة،كأن تقول اليوم سأشاهد معرضا انطباعيا، أو سرياليا أو واقعيا، مثل هذه التوصيفات يتكفلها الإعلان الخارجي، وبما أنك مشاهد عضوي لا تقنعك مثل هذه المسميات قبل أن تشاهد اللوحة..ثمة معلومات أولية على المشاهد معرفتها، وهي ألاتجاهات الفنية الأساسية، وغالبا ماتكون هذه الاتجاهات مرتبطة بحركة علاقات واسعة مع فنون ومنجزات أخرى، كالمدينة والتعليم والبحث العلمي والانجازات المعمارية والتطورات السياسية والأفكار الفلسفية المهيمنة، وحركة السوق، والتبادل التجاري الكبير، والأزمات الاقتصادية، وسياسة المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه المكونات تعين لنا الاتجاهات السائدة في المجتمع ضمن هذه الفترة أو تلك، وهي من السهولة ما نقرأ عنها في الصحافة وما نعيش أبعادها اليومية عبر وسائل الاتصال والمعلومات،معرفة الاتجاهات العامة تقودنا لمعرفة اتجاهات الثقافة والفنون، ثم شيئا فشيئا نصل لمعرفة اتجاه الفنان وهويته المعرفية والتي بالتالي سيضفيها على إنتاجه الفني أعلن ذلك أم لم يعلنه..
الأولوية الرابعة من هذه الأولويات، وهي الأهم عندي، هي أن نفهم أننا في عصر الحداثة وما بعد الحداثة،وهو عصر تقني فوضوي تهيمن فلسفة السوق كوجه من أوجه الرأسمالية الحديثة على ثقافة الشعوب كلها، بما فيها تلك التي لا تشاهد التلفزيون ولم يصلها الانترنيت، فعن طريق الهيمنة المعلوماتية على الجغرافية،استطاعت الرأسمالية الحديثة أن تحرك العالم وفق الاتجاه الذي يخدم مصالحها الكونية. يتطلب هذا الفهم، مسألتين: الأولى أن أي فن جديد غير مستقر على تقنيات ثابتة، ولا على مفاهيم سابقة أو شاملة،وهذا يعني أن الفنون مثل الأسواق قابلة لتأثير العرض والطلب. والثانية، أن أي فن حديث يتجاوز ضمنا الفنون السابقة له، أو يجعلها جزءا من الماضي الذي علينا أن نعمل قطيعة معرفية معه.