ادب وفن

البحث عن الضفاف / ناجح المعموري

صدرت مجموعة القاص عبد الحسين العامر ( مرزوك ... الإيقاعات الضائعة ) عن اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة وبدعم من شركة آسيا سيل للاتصالات، وتضمنت المجموعة ثماني قصص، ولا أدري لم انحرفت قراءتي للقصص التي تتناول موضوعة الحرب، ربما للدلالات الراشحة ضمنياً، ولأن البصرة ذاكرة الحرب الطويلة.
ولابد من اشارة ضرورية وجوهرية حول هذه القصص المتميزة بطريقة سردها ومعالجتها للانبناء الحدثي، حيث ظل هدف القصة عميقاً وغائراً في الداخل، مخفياً بواسطة رموز مكانية، لها علاقة مباشرة ومعروفة مع البصرة، حتى وان وجدت في فضاء آخر. ومن القصص المكتوبة عن الحرب بشفافية الرمز " البحث عن الضفاف " وهي من القصص الجميلة التي تهيكلت حول تدميرات الحرب، ولعل أهمها دمار النفوس ووحدة الكائن، وتبدو المرأة أكثر إحساسا بالعزلة والوحدة بسبب الحرب، لأنها الوسيلة المعطلة لوظيفتها البايولوجية/ الإنسانية، ولا تحوز المرأة صفتها الأنثوية وخاصيتها الآدمية إلا من خلال الطرف الأخر / الرجل، حيث تتمظهر وظيفتها من خلاله وهو يتبدى ـ أيضا ـ من خلالها . وسأحاول الإشارة بشكل سريع للرموز التي انتظمت القصة وحققت مجاورة مع اليومي المعروف/ وقائع الحرب، التي لم يشر لها القاص من بعيد أو قريب، واعتقد بأن الأعمال المكتوبة عن الحرب بهذه الآلية الفنية قليلة جداً، وساعد البناء الفني على الابتعاد عن طغيان الخطاب الأيدلوجي وابتدأ استهلال النص " برتابة متواصلة ، بدأ المطر في الخارج ناقراً بحبّاته على زجاج النافذة منذ بواكير هذا الصباح، مثيراً بداخلها هدوء وقلقاً ص49 "قدم هذا الوصف السينمي صورة اختزلت الأنثى المرموز لها بالنافذة والمطر ينقر عليها حاملاً لها احتمالات الدعوة الرمزية ، رسالة الصباح المبكر وهي تفيض عليها هدوءً وقلقاً . ثنائية المشاعر ، لكن الخوف والقلق هو مركزهما، لأن الموت حاضر في زوايا وتفاصيل الحروب الطويلة، ومنح القاص عبد الحسين العامر قصته زمناً طويلاً، ابتدأ منذ بواكير الصباح وحتى المساء.واستمر القاص في توصيفه السينمي كاشفاً عن خلوة الفتاة ووحدتها، انتظارها المستمر، لأن المرأة لا تعرف غير الترقب والانتظار في زمن الحروب، وتثير هذه العزلة قلقاً في أعماقها وحنيناً للآخر / الرجل المرموز له ببديل تعويض " ........ وقبالها في الغرفة كانت ألسنة صغيرة من النار الزرقاء تتراءى لها من خلال زجاجة دائرية أسفل اسطوانة رصاصية اللون توسطت المكان غامرة إيّاه بالدفء " في حين هي مستغرقة باستلقائها على السرير تنظر بتأمل للتشكيلات التي ترسمها قطرات المطر على الزجاج، والتي كانت تبدو لها، أو هكذا أوحت لها أعلاماً تحملها سواعد تلاحمت أجسادها على جياد غائرة باتجاه صحراء مفتوحة / ص49-50 . اللون الأزرق لنار المدفأة منح الفتاة إحساساً بالراحة ودفء الجسد، الذي حلمت بدفء له من نوع آخر، نار المدفأة والفراش الدافئ، أثارا حتماً في أعماقها نوعاً من الحنين للغائب والكاشف لذلك هو الأنثى وجسدها حصراً، الذي اقترن مع تساقط المطر بغزارة، ماء السماء، طاقة الإله آنو المخصبة للأرض، والمنتجة لكل ما هو متلبد ومنبعث منها، هذا التحقق للأرض، الرمز الأنثوي في الأسطورة، مفقود لديها، ومترقبة له ، واقترنت معه رمزياً وهي ترى صورته عبر زجاج النافذة ، صورة مرسومة لتومئ لمتحقق بعد العلاقة بين المطر والأرض، انه فعل الاتصال والإدخال التمثيلي.إدخال خلقته دهشة العلاقة مع المطر المخصب ـ وأيضا ـ مع المدفأة المخلقة في الجسد لحظة الاكتمال بالمتخيل الحسِ الطارد لفراغ السرير ولمنام الأنثى الوحيدة مع الغارق بصور المطر وانتفاخ قطراته كالبالونات الصغيرة ، المنتفخة والمنفجرة ، مكونة ما يشبه الإيقاع التبادلي بين الأنثى والفضاء الغارق بالمطر وفيضه الانبعاثي. لتعرض من خلال ذلك عوز الجسد الخاضع لأحلام الغياب والانتظار الذي لم تفصح عنه كلياً القصة وجعل القاص بؤرة السرد متأرجحة بين موجود غائب وبين حلم متصور تستدعيه الذاكرة. انزلقت القصة نحو تصورات الذاكرة التاريخية عن الحروب القديمة ليقترح تناظراً بين ماضٍ وحاضر ، وكان القاص راغبا في الإعلان عن زمان قصته ووقائعها المتخيلة والتي انشغلت بها الفتاة طويلاً وهذه التصورات تلمح عبر السرد لمشتركات التاريخ ماضياً وحاضراً ـ كما يمكننا إعادة قراءة تصورات الأنثى للجموع وبيارقها بأنها جزء من أحلام الوحدة والعزلة ، وهذا ما تتمناه بحضوره البطولي للمنتظر/ الغائب " التفتت الى جانب وسادتها. كان طيفاً هائماً في صباحات لم تشرق بعد ! نهضت وصوت ذلك الطيف يتردد بداخلها :
ـ انتظريني مساء هذا اليوم
ـ كم من المساءات مرت وأنا أنتظر!
توشح وجهها فرحاً وهي تتجه نحو نافذة الغرفة .
تنظر الى الشارع ، كان المطر متواصلاً ، التفتت الى مرآة بقربها . كانت خصلة شعر متدلية في أكثر الأحيان ، كان هو يعدّل ترتبيها بين مجموعة الخصل على حافة وجهها ، وتنهدت :
لا اعتقد بأنك تنسى هذا ، ولا انا ايضا ، فليس لدينا ما يشغل البال سوى ان نلتقي ، عندها سيكون أي مساء جميل ، هذا ... آه لو أنت معي ص51 //
الغائب يبتعد حتى في تصورات الأنثى، والأزمة النفسية ضاغطة . ورد الفعل المتصور تخيلي، يفتح نافذة على موجودية الغائب.
القصة تسرد وقائع مألوفة، لكني اعتقد بان هذا من ملامح هذه القصة ، متداخلة الوقائع والمتخيلات " انتظريني مساء هذا اليوم " يتدخل صوت الغائب، وبسبب طول الغياب ، يأتي صوته مطمئناَ ، لكنها تعرف تفاصيل انتظاراتها الطويلة " كم من المساءات مرت وأنا انتظر ! " تأكيدها هذا كاشف واضح وكافي لتأكيد بقاء الغائب غائباً ، والشخص الذي في ذاكرتها، لا يختلف عن الأبطال الشعبيين في المرويات الكثيرة... وانشغال القصة بالليل زمناً ضاغطاً على الأنثى وكل النساء المنتظرات والمنشغلات بالغياب والمجهوليات الكثيرة التي عرفتها الحروب، ليس في العراق، بل في العالم كله.تبرز النافذة رمزاً وعلامة، ينفتح بها وعبرها السرد، ويمتد نحو زمن آت ، قابل بالامتداد والتناظر مع الحلم الذي طال تحققه .وستظل زمناً أطول رهينة غرفتها، وهي ترى محفزات ذاكرتها ومثيرات جسدها الانثوي ، الباب المغلق / النافذة ، الفضاء الخارجي ، المدفأة ولهبها الأزرق ، مزراب البيت / القطة البيضاء / وبندول الساعة / . كل هذه العلامات والرموز من طاقات الدلالة وافضاء المعنى الذي أراده القاص عبد الحسين العامر ان يكون ويظل هادئاً ، شفافاً وشعرياً باستثناء زلل بسيط في خرق هذه الفنية .كل هذه الرمزيات وضعت الأنثى في محيط العطل واستمرار الترقب وكأنها تستعيد كل ما عرفته المرويات والليالي من قصص النسوة المنشغلات بالانتظار والفقدان.واعتقد بان الأنثى تعيش محنة قديمة في وحدتها والإحباط المزمن " كادت تترنح كبندول الساعة الجدارية المعلقة قبالتها " وكرست الحرب عزلتها ودائماً ما تتحول الانتظارات فيها الى غياب حقيقي وهي الوحيدة ـ هكذا اختارها السرد ـ لكنها حافظت على نقاء الأنثى وطهارة جسدها الذي لم يعرف غير حسيّات الأحلام والتصورات " دخلت قطة بيضاء ، تنفض ما علق بأرجلها من ماء المطر، متجهة نحو مصدر الدفء وسط الغرفة " رمزها الدال عليها والكاشف عنها، هي متناظرة مع قطتها ، نقية، وصافية ، لكنها مبللة بالمطر المتصل بها فعلياً ، ومع الأنثى تمثيلياً.اشتغلت التنوعات الرمزية على اضاءة لحظة ذاتية ، خاصة للغاية وحدة وعزلة ضاغطة نفسياً على الفتاة ، التي لم تكن منشغلة بوضوح في محيطها الاجتماعي، من اجل وضوح الصراع الداخلي المحتدم ، والمفعل عبر تراكم شفرات ورموز وعلامات أضاعت ما هو مطلوب بملامسة شفافية وشعرية ومثال ذلك تسلل القطة الى الغرفة وحصول تماه بينها.
هذه الصور المفاجأة لها فعل الحركة الداخلية في القصة وكأنه يجعل من وظيفة الصورة طاقة سينمية تتجاور مع حوار مفترض، أو مستعاد وتكرر ذلك أكثر من مرة، لكني وجدت الدور الرمزي للقطة فاعل بدلالته الايروتيكية، التي استحضرت قوة هذا الرمز، في أعمال سردية لدى مهدي عيسى الصقر ورشيد بوجدرة، واشتغل الأخير طويلاً وعميقاً عن ثنائية بين المرأة والقط : قالت :
ـ لا اعتقد انك تنسى هذا ، ولا أنا أيضا . فليس لدينا ما يشغل البال سوى أن نلتقي ، عندها سيكون مساء جميل هذا .....
أولو كنت معي " الحضور المتخيل سحب عين السارد لالتقاط رمزية ذكورية، المعاينة لها نوع من الإشباع الحسي " ابتسمت عندما نظرت نحو مزراب البيت المقابل ، الذي كان يتدلى منه خيط من ماء المطر ......وراحت تجرّ ساعات النهار، منتظره دنو المساء.
ـ كم هي ثقيلة وبطيئة ، تلك الساعات ؟
قالت هذا وهي تداري ذلك التألق بارتباك .وتكاثف النقر ....نقر حبات المطر على زجاج النافذة ص51 // يتحقق حلم المرأة مساء ، كل ما تريده يكون ليلاً، وأحست النهار بطيئاً وثقيلاً، والصور الرمزية للاتصال ضاغطة عليها، والمطر بديل الغائب، وفر لها شيئاً من المتعة الحسية.
وكانت القطة بديلاً أخر خلخل التوقع الذي عاشته.
ـ سأكون عندك فلا تقلقي
ـ ومن يستطع ان يمسك بخيط القلق يا ترى ، وكيف ينسج منه مساحة ولو صغيرة من الطمأنينة ص52 //
الزمن بطيء وثقيل ، مخاوفها تنمو ضاغطة عليها بوحدة وسط مكان، كل ما فيه يوميء لحالتها المضطربة، وحنينها.والقطة أكثر الرموز تحفيزاً للحاجة للأخر، والحنين له // اقتربت من القطة المتكورة، ومسحت جوانب بطنها المنتفخ عن رذاذ الماء الذي بلل شعرها ، وهي تنظر من خلال الباب المفتوح لفناء البيت الذي بدأ يمتلئ بماء المطر والفقاعات شيئاً فشيئاً ص53 //. حضور الأمل والشوق للغائب بعودة مرتقبة تشير له فرجة الباب ، وهي صور مثيرات للحس ، فالفقاعات ملأت فسحة البيت ، فقاعات بلورية ، ذات بياض نقي ، تحتك بعضها مع البعض الأخر بمجاورة اتصال ومشاركة.