ادب وفن

الثقافة الديمقراطية والثقافة الطائفية: محاولة بناء العافية المدنية للوطن العراقي .. القسم الثاني والأخير .. / جاسم المطير

لقد نتج عن الصراع بين الديمقراطية والطائفية السياسية نوع أول من المواجهة بين القيم الحضرية والقيم البدوية انعكس على نوع ٍ آخر من المواجهة المباشرة بين الدولة العراقية الجديدة وبين متطلبات المجتمع المدني المفترض تشييده بديلاً عن مجتمع مهشم سابق قام على أركانه نظام قمعي متسلط طيلة 35 عاما ممتدة من زمن حكم الحزب الواحد (1968- 2003) .
غير أن المصطلحات السياسية التي جرى تداولها بعد سقوط دكتاتورية صدام حسين المنتشرة في الحياة العراقية العامة خلقت التباسات كثيرة في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية حتى ظهر في الصحافة وعند العديد من الوزراء وبعض البرلمانيين تأويل ثقافي للديمقراطية ليس بمعناها المعروف أي " سلطة الشعب" بل بمعنى " سلطة الطائفة " الفائزة بأكثرية مقاعد البرلمان . كما نشأت سلطات طائفية عديدة أخرى تميزت بممارسة القتل والإرهاب العدواني المسلح على القرى والمدن والعاصمة بغداد أيضاً تحت مسميات "القاعدة" و" دولة العراق الإسلامية" وعناوين دينية ومذهبية متعددة الأشكال والأهداف والأسماء، سنية وشيعية، مدعمة بوسائل متعددة من قوى رجعية من خارج الوطن .
تركز نشاط هذه القوى المسلحة في محافظات ديالى والانبار والموصل وصلاح الدين وغيرها، وقد قامت على تداخل وتدافع واختلاط غير مخلص بين مقولتين ، أي اختلاط المفاهيم بين مقاومة الاحتلال الأمريكي وممارسة الأعمال الإرهابية الوحشية ضد المجتمع المدني عبر نماذج من العدوان الطائفي الأعمى .هذا الاختلاط جعل من تعليل مقاومة القوات الأمريكية موقفاً مضاداً للقضية الوطنية خدمة لتنظيمات الإرهاب الدولي ولصالح القوى والمنظمات الإرهابية ، الداخلية والخارجية ، وفي صالح تنمية ( الثقافة الطائفية).
إختلاط المفاهيم المتنوعة
الثقافة الطائفية في جوهرها تبرر كل إجراء سلطوي، قمعي. وقد انساقت بعض القوى المحسوبة على الديمقراطية ، انسياقاً خاطئاً حتى بنوايا طيبة ، وراء إرادة القوى الطائفية ، في بعض الأحيان والحالات، باسم الرغبة في التحالف الوطني ،مما أدى إلى اختلاط المفاهيم الديمقراطية مع مفاهيم الوطنية مع مفاهيم الطائفية السياسية.نتج عن هذا الاختلاط مزيج من عدة عناصر مبهمة أقامت نوعا من (الإرادة المشتركة) تحت عنوان ( المحاصصة) التي حالت دون قيام الديمقراطية في المجتمع والدولة .هذه المحاصصة أفقدت حقوق الشعب العراقي بالاقتراع العام والديمقراطي .الاختلاط الملتبس بين الديمقراطية والطائفية من قبل الطائفيين أنفسهم الغالبين بالانتخابات البرلمانية على نطاق تشكيل حكومة (وزارة) بالمحاصصة الطائفية أدى إلى تضييع النظام العام للدولة وهو النظام الذي يقوم على وحدة الإدارة المركزية في السلطة التنفيذية وتوسيع سلطة الإدارة اللامركزية في المدن والمحافظات.لكن ظهرت خلال السنوات العشر الماضية عدة سلطات تنفيذية مركزية في الوزارة الواحدة أو في المحافظة الواحدة قامت على (فوضى الإدارة) وليس للفوضى أية صلة بنظام اللامركزية الديمقراطي.كل (سلطة وزارية) تظهر تبعا للطائفة التي ينتمي إليها الوزير أو المسؤول الحزبي أو الأمني (الميلشيا) أو قوات ( الحماية المسلحة) في هذه الوزارة أو تلك وتبعا لمصالح الحزب السياسي الإسلامي، الذي أوكلت الوزارة إليه لإدارتها. هنا ظهرت بالتطبيق ( قيم تنازعية) في السلطة التنفيذية أو السلطات التنفيذية المتعددة في مركز الدولة الجديدة وفي غالبية حكومات المحافظات مما أدى إلى حدوث صراع بين أحزاب الإسلام السياسي وتنازعها على مركز السلطة وقراراتها إذ تظهر على السطح المرئي صور ومواقف (سلطة الأحزاب) وليس قرارات وإجراءات سلطة الدولة) حين تحبط أو تفشل صياغة تسويات أو تحالفات طائفية بين جماعات ذات مصالح اقتصادية أو حزبية أو عائلية أو عشائرية.هذا أدى ، أيضاً، في أكثر من مرة، وفي أكثر من حالة، إلى تحول (صراع الجدل) إلى صراعات مسلحة بين أحزاب طائفة واحدة حيث برهنت على صواب صرخة جبران خليل جبران في كتابه (حديقة النبي): يا أصدقائي ويا رفاق طريقي ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين ..كذلك القول حول اختلاط الديمقراطية بالطائفية وإخضاع الأولى للثانية في التشكيلة الرئاسية لمجلس النواب ولجانه المتفرعة كان تجاوبا مباشرا مع روح المذهبية الطائفية وليس مع روح المبادئ الديمقراطية مما جعل البرلمان ساحة للتنازع الطائفي حول المكاسب والمناصب التي تعزز هذه الطائفة او تلك . . لم يعد البرلمان العراقي مؤسسة مختصة بالتشريع القانوني وبمراقبة أداء السلطة التنفيذية وبتشييد دولة مدنية مؤسساتية.هذا النمط في الوجود البرلماني القائم على التنازع الطائفي والحزبي لا يؤدي الى تعزيز سلطة الشعب أو ممثليه تجاه الدولة ، كما هو الحال في بلدان الديمقراطية الغربية، هولندا والسويد والدانمرك وبريطانيا ، التي حققت فعليا دورا مدنيا اجتماعيا وهو التعبير الحق عن الشرط الأول من شروط الديمقراطية.هذه الأشكال في التكوينات الرئاسية والتنفيذية والتشريعية، وربما في تكوينات السلطة القضائية، أيضا، التي لم ولن تسلم من الضغوط السياسية، توفر أجواء وإمكانيات تدخل القوانين الحالية والدولة الحالية لصالح الطائفية وعلاقاتها المتبادلة في (لعبة العملية السياسية) حيث النزاعات داخلها تشهد ،دائما، ما يسمى بتصريحات التهديد بالانسحاب منها كشكل من أشكال الضغط الطائفي.
هذه الأشكال من العلاقات السياسية النرجسية لا تؤمن فصلا تاما ً بين الذاتية الطائفية والحياة العامة في البلاد.
وقد أكد المفكر الليبرالي رالف دراندوف: (أن المهم في الديمقراطية هو ضبط الجماعات الحاكمة والتوازن معها واستبدالها من حين لآخر..).
يبدو أن مثل هذه الثقافة الديمقراطية لم يتردد صداها عن العمل بعد في العراق الجديد.