ادب وفن

العدل والظلم في لغة الزهاوي الشعرية / لفته عبد النبي الخزرجي

الزهاوي، شاعر عراقي مجدد في عطائه، واقعي في نظراته، مرهف الحس في نتاجه، ثائر في لغته الشعرية لمحاربة الجهل والأمية والضعف والظلم ، متحرر في منهجه المعرفي، شعرا وأدبا وثقافة واجتماعا، ولد الزهاوي في بغداد سنة 1863م، ودرج وترعرع في بيت علم ونعمة وأدب.
حيث كان والده محمد فيضي الزهاوي، مفتي بغداد، وهكذا كان الزهاوي يرفل في بيت الوجاهة والعلم والأدب واللغة، وتلقى معارفه الأولى في مدرسة والده، وهي مدرسة الشريعة الإسلامية، وكان اهتمام الزهاوي منذ بواكير حياته الدراسية، الإلمام باللغة العربية والآداب والنحو والتاريخ. وقد تمكن الشاعر من الإلمام بثلاث لغات، العربية والتركية والفارسية، وأتقن الصرف والنحو، فنشأ جميل صدقي، نشأة معرفة وأدب وأخلاق، وقد استطاع بجهوده الفردية وكدحه ومواكبته للمعرفة، أن يمتلك ثروة أدبية وفكرية جعلته في مرتبة الفلاسفة.
عرف عن الزهاوي، العقلانية والواقعية، فكان شعره مثالا لتلك العقلانية، ولذلك نراه يؤكد تمسكه بالحقيقة ولا يعير إذنا لغير الحقيقة أبدا "لا أطمئن لغير ما أنا مبصر" هذا هو منهجه في الحياة، كانت الحقيقة عنده تعلو على كل شيء، وهذا ما عرضه إلى الكثير من التهم والطعن بإيمانه ومبادئه وأفكاره. فقد انهالت عليه الاتهامات من كل حدب وصوب، حيث واجهها بجلد وصبر مرة، وبالشكوى والجزع مرة أخرى، "ومهما يكن من أمر فان الزهاوي شاعر كبير له من الحسنات ما تذوب فيها السيئات، وله من الروح التقدمية ما يجعله فذا بين أبناء جيله، وله من الآراء الإصلاحية ما هو جدير بكل تقدير، وله أخيرا من المقدرة الشعرية ما يجعله في صفوف الخالدين".
وعندما يدعو الزهاوي، إلى أن يكون الدين بعيدا عن الخرافة مجردا من أمور لا يقبلها العقل ولا يستسيغها المنطق، فانه إنما يريد أن يكون الدين نقيا كما كان في بداياته، ولذلك فهو يردد: كونوا جميعا سادة نفوسكم فالعصر هذا سيد الاعصار لا تقبلوا في الدين ما يروونه إلا إذا ما صح في الأنظار وتحرروا من قيد كل عقيدة سوداء ما فيها هدى للساري ومن خلال ما أصابه من حيف وظلم وتعد على كرامته ونبل مقصده، فقد راودته فكرة الهجرة إلى خارج العراق، لكنه لم يستمر طويلا فعاود الحضور في وطنه، وواصل عطاءه الشعري والأدبي والإصلاحي. ومن أفضل ما فاضت به قريحته ، قصيدته "مرثية العدل" والتي كانت فنار الشعر، وعطاء الشاعر وجرأته وصراحته، فهو يناشد الحكام، العودة إلى طريق الحق والعدالة والمساواة وترك جادة الباطل والظلم وإزهاق أرواح الناس والتعدي على حقوق الآخرين :
يا غيرة الله ابطشي بعصابة
إلهاهم الجبروت والطغيان
فلقد أهين العدل في ديوانه
ولقد أهين العلم والعرفان:
يا عدل انك أنت محبوب لنا
حتام هذا الــــصد والهجران
يا عدل منذ صددت عنا حالنا
يا عدل عنك ، بحالة سلوان
كان أسلوب الزهاوي يفضح الحقائق المظلمة ، ويروي قصص الظلم والمظلومين والبائسين ، ويهبب بالهمم ، وينفث في عروق الشعب نار الثورة، مناديا ومحرضا ومنبها ومرشدا..
وللشاعر الزهاوي مواقف اجتماعية خالدة فقد كان يرى أن الإنسان لا بد أن تكون له حقوق ثابتة في مجتمعه ، وتضمنها قوانين مصانة، وهو لا يلين ويحرض المجتمع على معرفة حقوقه والمطالبة بها وعدم التهاون في استحصالها. ولذلك فان الشاعر لا ينسى الكادحين في الأرض، والذين يزرعون ويحصدون ولا يأكلون الا الفتات إن من كدوا يزرعون البقاعــــــا
اشبعوا غيرهم وباتوا جياعـــــــا
ومن العدل أن يكون نتاج الـ
أرض بين المستثمرين مشـــــــــــاعا
ولأنه طموح ويحمل مشروعا للإصلاح الاجتماعي ، فانه يعول على الشباب ، لأنهم كما يعتقد، الجيل الذي يمتلك القدرات والطاقات الزاخرة، كما يحمل النزعة للتجديد والتواصل مع حركة الإنسان المتحضر في عالمنا ، كما أن الشباب يطمحون إلى الانعتاق من العبودية والظلم الاجتماعي والخرافة والأفكار البالية، التي توصل إلى نظام الفقر والمجاعة والتخلف، ولذلك فهو يدعو إلى الثورة على أنظمة الفساد والطغيان والاستبداد:
إن الحياة لتبتغي ، في عصــــرنا هذا انقلابا
مالي رجاء في الشيوخ ، وإنما أرجو الشبابا
من كل وثاب إذا ، أغريته اقتـــــحم الصعابا
وحيث أن الشعر عند الزهاوي، ليس كما تفهمه القلة من الناس، شعر للمدح والإطراء والشعر فقط عند الزهاوي، يجب ان ينقل معاناة الإنسان، بمعنى الشعر لصناعة الإرادة الوطنية، الشعر الثائر على الظلم والجبروت، ولهذا نرى الشاعر يدعو إلى الحراك وعدم التهاون في المطالبة بالحقوق :
بثوا بالســـــــــــــنة لكم من نار ما في جماجمكم مــــن الأفكار
ســــيروا إلى غاياتكم في جرأة كالســــيل هدارا ، وكالإعصار
ثوروا على العادات ، ثورة حانق وتمردوا حتى عــــلى الأقدار
ولا يكتفي الشاعر بدعوته إلى التمرد على التقاليد البالية، وعدم الخنوع إلى شرنقة التخبط والعشوائية والجهل والأمية.
ولأنه شاعر كرس حياته لخدمة مشروعه الاجتماعي الإصلاحي ، فقد كانت لا تلين له قناة ولا يصيبه اليأس ولا تخذله الإحن ، ولذلك فهو مثابر في نداءاته ومتواصل في دعواته ، لا يكل ولا يمل ولا يتردد في فضح عوامل التردي والنكوص في المجتمع، رافعا صوته بالنداء، ونداؤه، التغيير في بوصلة الأفكار، التغيير في المفاهيم العلمية والإنسانية والدستورية ، والعمل على تجاوز الماضي المحاط بشرنقة القيم والأفكار المتدنية، والبعيدة عن حركة الحضارة الإنسانية:
لا يهتدي الساري إلى العلياء ما لم يلق وقدا
ما لم يكف عن القديم وســـــخفه ما لم يجدا
ما لم يغير ثوبه ، مــــــا لم يمزق ما تردى..