ادب وفن

قراءة في مجموعة (نزيف الهم) للشاعر محمد عزيز كاندو / زيد الشهيد

ظل الشعر الشعبي رغم استعذابه من قبل الذائقة السمعية لنسبة كاسحة من المتلقين بعيداً عن الدراسات والتناول، وسار مقتصراً على السمع والترديد من قبل مستعذبيه.. وكثيراً ما تساءلت مع نفسي لماذا هذا القصور المتعمد او تلك اللامبالاة المقصودة في عدم جعل الدراسات والبحوث الخاصة به تخطو بموازاة خطوه وتبحث في فضاء تحليقه؟.. لماذا نقرأ بلذاذة باهرة النص الشعري الشعبي في حين نتجاهل التعبير الكتابي عن مبررات توالد هذه اللذاذة.
تاركين ضرورة البحث والتقصي والتأرخة لهذا الإبداع الحافر وجوده في الذاكرة العراقية الجمعية؟ أهو الشعور بأنه لا ينتمي إلى نسيج اللغة العربية، ومن العبث التشبث به، بحيث يغدو خارج منظومة اللغة الفصحى؟ أهي خطيئة كبرى مَن يدخل ميدان الكتابة عن هذا الإحساس المتكينن لغةَ مشاعر وأبجديةَ أحاسيس؟ هي العقدة المستحكمة التي ظلت تتبارى راهصة على أديم الحيرة والسؤال الذي يبحث عن إجابة ناجزة.. هو (نزيف الهم) الذي ندخل ميدان بوحه لنسوح في دواخل نصوص تطلب استحالتها وجوداً على الورق لخمسة عقود زمنية من عمر محمد كاندو.. عقود عاصر فيها الشاعر تقلبات الأنظمة وتغيرات الأحوال ؛ شاهد الهول مثلما ترجم السرور.. حبا على أديم مدينته السماوة ليؤرخها وجوداً بكل أفراحها وأتراحها/ تعثراتها ونهوضها/ مرضها وعنفوانها/ ليلها العتيم وصبحها الباهر/ إشراقها الضئيل وخفوتها العميم مثلما رفل على خمائل هذا الوطن في سهوبه وجباله وبواديه مختزناً في ذاكرة متأججة كل ما رأى وجل ما عاصر. يسعد لفرحه ويبكي لألمه، يجاهر بحبه له ويخفي غيظه عليه، ينوء بحمل همومه ويفضي بما في دواخله أسى لأساه حتى بلغ به الجزع أنْ صرخ مرةً وهو يرى استهتار مَن لا يستحق أن يرفل على ثراه ولا يعب من هوائه، ويبصر المفسدين ينتهكون بقايا جماله وشبابه وما اختزن من ألق رغم قلته وضآلته فرثاه أجمل
رثاء، وبكى عليه بكاء النساء الثكالى:
مسكين يا هالوطن ياهو اليجي يوليك
يالعتبتك من ذهب جوعان كلي شبيك
نهرين يجرن فرح عطشان، من يرويك
كلك صرت مكبرة من راسك لرجليك
حتى العدل مو عدل جذاب يمشي عليك
سمَّوني بس ما متت رادوني اكفر بيك
ابهامي ظل بس إلك ما وقِّع امتانيك.
لقد سقط الحلم الذي حلم من خلاله ان ينتهي سارقو الوطن ومبعثروه على الغرباء فجاء الكذابون المفسدون الشرهون الذين لا هم لهم سوى مصِّ دمائه وتهشيم قوامه ليكون وطناً هزيلاً وشعباً يصرف العمر جوعاً وعطشاً هو الوطن الغني الذي عتبته من ذهب كما يصفه. والذي عتبته من ذهب مؤكداً سيكون قلبه وأحشاؤه ليس فقط من ذهب بل وزمرد وياقوت وفضة ولؤلؤ وكل ما خلق الله من خيرات أرادها ذخراً للعراقيين لما يتمتعون به من براءة ونقاء فتناهبها الدخلاء منذ العصر العباسي حتى يومنا هذا، عابثين سارقين، ومضطهدين قاتلين. ظل العراقيون يصرفون القرون صافين صادقين، وعبروا العقود من الأعوام كرماء ؛ دواخلهم تختزن الكبرياء إلى جانب البساطة ؛ العفو والسماحة إلى جانب تحمل الضيم والعسف، والشجاعة والجلد مع الصبر والصمود. وكان الشاعر كاندو المعبر الأحق في تصوير خصال أهله، والأصدق في كشف شفافية أرواحهم ورهافتها. كان الشاعر الراصد اليومي لحركة الناس لذلك حين أراد توصيف الأهل في نص (هَلي) سكب جذوة القلب على خميلة صدق المشاعر ؛ ونده بكل مفردات اللغة ان تطاوع احاسيسه لتنسفح شمساً تضيء دهماء النفوس التي لا تريد لأهله السمو والرفعة:
هلي.. اعزاز الارواح أرخاص الارواح
هلي.. فوك اليصيح اوكبل ما صاح
هلي.. البيت الجبير الفاتح الراح
هلي.. اسلاح اويطك من جفهم اسلاح
هلي.. بيض الصحاح أوسمر الارماح
الخلك كلهم سفينة او هلي الملاح
هلي.. بيرغ عراضه ما لوّه وطاح
هلي.. امضيفين حتى الياخذ ارواح
هلي.. منهم عرج للسابعه ارواح
هلي.. الموت الأحمر لو أذَّن وصاح
هلي..حيل الزلم لو عجَّت السّاح
بانوراما التوصيف.. أبجدية مدينه
قدم الشاعر في نص (نزيف الهم) الذي دفع به ليكون عنواناً رئيسياً للمجموعة يحمله الغلاف الأول توصيفاً حميمياً وجغرافية مشاعر يصف فيها مدينته التي أحب وأهلها الذين عشق. (السماوة) هذه الايقونة الكرستالية، والسجادة المطعمة بفسيفاء المحبة والوداعة والقلوب الرؤومة والذاكرة الخازنة تقلبات الاعوام وضيم القدر.(السماوة) الجغرافية الحييّة بملامحها الجنوبية التي تسرق نداوتها من ماء الفرات الذي يمر بها ويناغيها، وتتقبل لفح الصحراء الذي تنقله رياح السموم الساخنة. سماوة الشاعر لها لون الحنطة وأريج العنبر ورواء رمان البساتين
المستلقية على النهر كاستلقاء غزالة عطشى هي والفيوض المائية معادلة عشق وحب وتعلق وغنج.. هي السماوة التي تحمل أسىً يعلو كالجبال، وألم يمتد واسعاً كالبحار، وتنزف هموماً تتدفق كالدماء، يصورها الشاعر في واحدة من أعذب ما صور ونحت. صورة كأنها أبجدية يوم الحشر وساعات النشور.. فالمدينة في خضم هيجان والناس تدور في دور خوف وهلع ولوعة. انه الظلم الذي دخل المدينة، والجور الذي تفشى في الأزقة، والضياع الذي اريد له ان يكون هوية الناس، والتشرذم الذي خُطط ليكون لافتة تعلن موت السماوة ككينونة مصغرة لكل مدن البلاد. هي المدينة التي قاست وعانت، بكت وحزنت، تأست وأحترقت. تهالكت، وكانت:
الحيطان جمره.. اوسوك يبلع سوك!
والوادم لزك ملزوكه عالحيطان
صح.. الناس تمشي بس لوين تريد؟
الوادم تسولف.. بس لغط خرسان.
ومي أومحَّد يفرزن.. شنهو راح يصير.
وامعلك ثكلنه.. ابخيط من دخان
تكول الساعة.. كامت كلنه فد تابوت
واتراب الشريعة.. ايغسّل الغركان
وحشة واللحد ضيجة ابكثر ما بيه.
اولايه امجفِّنه.. وامتانيه الدفان.
انها بانوراما الرعب الذي زرعه النظام المباد ليفرض سيطرته الدموية على شعب ظنه سيُذل ويهان إلى ابد الآبدين، وأنه القادر على تسييره كيفما يشاء. انها (الجورنيكا) السماوية أو العراقية التي يرسمها محمد عزيز كاندو لأيام الرعب المهول الذي فجره رأس النظام المباد في قلوب الناس (واعتقد ان الشاعر أرّخ للأيام التي تلت عودة رجال الدكتاتور إبان حرب الكويت في العام 1991 وتلقيه الضوء الأخضر من امريكا لاستعادة السيطرة على المدن التي تحررت بفعل الانتفاضة الكبرى آنذاك وفتكهم بالناس عبر نشر العيون الغادرة في مداخل الاسواق والشوارع والقيام باختطاف مَن تشير إليه هذه العيون ثم الشروع بحملة قتل جماعي سري وصامت نتج عنه مقابر جماعية شكلت بعد سقوطه وصمة عار لن تمحى ولن تنسى..). وكان الهول.. وكان السؤال الباحث عن موعد قدوم الصبح والنور.. وكان:
سوك الدم فتح بيبانه للشارين.
اوصرنه.. ابلا سعر ننباع للتابوت
زرعوا بالشوارع.. أوسخ الذرعان
والكلبه حمامه من زفرهه ايموت
جم صوت انذبح..والسكن بطن الحوت
جنايزنه.. ركض تركض.. بلا دفان
تتفرهد الجثة وتندفن بسكوت..
يا ليل العراق الصبح سافر وين؟
لكن السماوة تنهض من رماد تعثرها ووجلها كالعنقاء، فيتبارى أهلها: الشباب منهم والشيب، الرجال منهم والنساء. يمزقون ثوب الصمت ويرتدون درع التحدّي وتحفيز النفس.. يتركون قلاع الخوف خارجين إلى فضاء التحدي ومقاتلة الشر بكل رموزه ووجوهه ودهاءاته ومراميه.. يلوّح لهم نخل السماوة بقامته البارقة الباهرة، يدعوهم إلى الصمود ومقاتلة المعتدي وفتح باب جهنم على السارقين براءة المدينة ونقائها:
ريح وريح .. تتلاطم الدنية إهموم.
اونشك اشراعنه.. اوصارت الخبزة اشراع
نعي ام النشامة.. طاف حد الكون..
من كفرت الدنيه.. ما وصلنه اذراع
وكف نخل السماوة اوحارب البارود
ما باع الشوارب لا قبل ينباع
فكينه جهنم.. بابهه للجاي أوربعنه.. فصلنه ام الاجانه ارباع.
تلك هي النصوص الشعبية التي ولدت على دكّة إبداع الشاعر محمد عزيز كاندو لتؤرّخ حركة أدبية تعلن مسارها مع حركة المجتمع السماوي وهمومه وارهاصاته وتطلعاته، وتقول للأجيال القادمة أن بعض من تجسيد التاريخ يمكن تناوله ودراسته وتتبعه ومعرفته من بوح الشعراء، ومحطات الشعر.