ادب وفن

الروائي العنكبوت حازم كمال الدين / جاسم المطير

لا أظن أن روائياً يمارس الكتابة بدون صمت مطبق،
لكنني أظن ان حازم كمال الدين مختلف.
كل شيء الى جواره يقرقع،
يتحرك إلى أعلى واسفل بنشاط محترق.
ربما يبكي، يتألم، يصرخ أو يصيح ،حين يلتفت إلى قرائه البؤساء وهم ينالون منه نزفاً دموياً منسوباً إلى عنكبوت أثناء )استحلابه..!) . يحصي قطراته قطرة قطرة ليحللها في مختبرٍ، سري أو علني.
أقول ، أولاً، أنني من المعجبين بالتكنيك السينمائي الامريكي لسلسلة أفلام (الرجل العنكبوت) أعني من ناحية اخراجه واشتغاله على الربط بين المعقول واللامعقول في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، والعلاقات الغرامية، أيضاً . في مسار هذه السلسلة تمثيل بأدوار عالية بمستوى القمة في التعبير. فيها لغة تكنولوجية – سينمائية عن تحويل أفعال (الفرد) إلى ما هو أقوى واعظم من افعال (الجماعة). تلك هي ميزة الفعالية الاعلامية التي تخططها هيئة متخصصة في وزارة الخارجية الامريكية ، المشرفة الرسمية على الانتاج السينمائي في الولايات المتحدة، لتقدم للمشاهدين في العالم اجمع صورة (المقاتل الامريكي) كونه بطلا لا يُقهر و(الاستخباري الامريكي) موضوعاً نادر الوجود في غير بلاد العم سام ،حيث لا يمكن أن ينتصر على أمريكا اي منتصر آخر . أجواء فيلم (سبايدر مان) مرعدة والقطارات فيها سائرة والضحايا ملطخين بدمائهم، وهناك جمع من الناس، كاسبين وخاسرين، لا احد يشعر بعذاب قطرات المطر والطلقات النارية وثقل الاحجار وكل حيل الشيطان غير (سبايدر مان) في افلامه ذات الانكسارات والانقطاعات والانتصارات تلملم وجودها في دروب الانفاق السياسية المعتمة والفضاءات التآمرية الملتهبة.
ليس بين سيناريو فيلم (الرجل العنكبوت) و فصول رواية (مياه متصحرة) أي علاقة إلاّ من زاوية واحدة فكل منهما اوغل في العناء بحثا عن الابداع و الحداثة في البناء الدراماتيكي والبراعة في العرض التكنيكي. كلاهما كاتب سيناريو الرجل العنكبوت وكاتب ( مياه متصحرة) مَلكا عناصر جديدة فائقة ليجبرا ،المشاهد والقارئ ،على الدخول إلى مسرح الاحداث العنكبوتية، ومراقبة صراعاتها ومآخذها ونتائجها، مع الفارق في الرؤيتين السياسيتين . نموذج حازم كمال الدين، بعكس نموذج فيلم (سبايدر مان) مستحضر من إرادته وجديته في كشف علاقات الدراما المأساوية ،التي يعانيها الشعب العراقي. لا أريد استباق الرأي في القول: أن قيمة الفن الروائي عند حازم كمال الدين أكبر من قيمة سيناريو فيلم (الرجل العنكبوت) بسبب ان عيون شخصيات الرواية وكائناتها وآلامها اكثر نحولا واكثر دكنة، تحتاج إلى تحليل نقدي استنتاجي واسع عن مطر الحوار بين أبطال الرواية، النازل على ارضيتها، لا تتحمله صفحات قليلة اكتبها بعجالة .
النص الروائي عند حازم كمال الدين في روايته الاخيرة هو نص مكتوب في غاية التعدد: تعدد الشخصيات، تعدد الاحداث، تعدد الاصوات، تعدد خاصية أبطالها، تعدد ميزاتهم ، تعدد مواجهاتهم الإنسانية وخطاباتهم المتعايشة ،المتناقضة ،المتحاورة ، المثرثرة ،المتجانسة وغير المتجانسة.
بصمتٍ وبضرباتٍ متتاليةٍ، وبعزلة حيناً وبترابطٍ في حينٍ آخر، استولد حازم كمال الدين اشياء معقولة وجنونية في دنيا روايته ،في غمار احداثها، بأسلوب الواقعية والحداثة المتخيلة، مقتحما بلاغية وعلمية مكونات أسلوبه السابق في السرد المسرحي والروائي بمجمل اعماله المسرحية والروائية . اعتمد على مدّ خيوطه (العنكبوتية) في التاريخ والايديولوجيا، بلغة تراثية ومعاصرة ،حتى صار ،بنظري (الروائي العنكبوت) الناسج لخيوط متشابكة عن الواقع السياسي العراقي المعقد، بالحوار والاحداث وبتواصل انهمار التخييل في سرديته الروائية. إنه (عنكبوت) واسع الحيلة متمكن في بث حركة الحياة المختبئة في عالم عراقي سياسي اخطبوطي عن يوميات النكبات والبلايا ،المترامية الأطراف في بلاد الرافدين .
منذ مفتتح الصفحة الأولى من الرواية يرى القارئ ما يشبه دخاناً اسود يثيره صوت حازم كمال الدين مردداً :
- السفّاح .. أنا السفّاح.
يبدأ تعامله مع صدى هذا الصوت ليصحح، بنفسه لنفسه، أنه ليس سفّاحاً حقيقياً بالمعنى اللغوي الفعلي ،لكنه سفّاح بـ(النسب) إذ يحمل لقباً عائلياً هو (السفّاح) ليدخل من خلال هذا اللقب العائلي إلى فصول ومشاهد ولغة روايته المعنونة (مياه متصحرة) من خلال النفق الحلزوني لشجرة النسب العائلي ، ثم تتدخل لغته الحداثوية مبيناً أن روايته تأخذ مشاهد فيلم سينمائي بطله يحمل اسم (حازم كمال الدين) وهو لا يعرف هل مقتول بالعراق أم مختطف. ربما يجد نفسه مقتولاً ليعبر عن حركة تأملية في الصفحات الروائية التالية، بشكل من اشكال الارادة السردية الابداعية. هذه الصورة اخترعت بطولة حداثية بالتأكيد . لكن أباه لن يستطيع أن يدفنه لأن جسده تشظى الى اشلاء في سوق الخضار.
إنها سمات رواية (ما بعد الحداثة) كما في المصطلحات النقدية في موجاتها المتجددة في الادب الاوربي والامريكي، بمعنى أن هذه السمات تأخذ بعض أو جميع علاماتها من شعاع الادب العالمي، لكن القارئ قد يجده في تجاويف أنفاق عراقية أخرى يمارس كل ما هو طبيعي وغير طبيعي لتحرير نفسه من قيود المجتمع وتحرير اشلائه المتحللة ويُدخل سمات رواية (ما بعد الحداثة) في فصولها كافة مقدماً لقارئه، بالنتيجة، رواية صارمة مفرطة في التوصيفات المغرية عن السفّاح المسفوح.
حازم كمال الدين ،هنا ، يحاول التوفيق بين معطيات (رواية ما بعد الحداثة) الرائجة في الغرب وبين الوقائع المؤثرة في وطنه العراق. بمعنى انه استخدم شيئاً ليس قليلاً من التراث العراقي في خيوطه العنكبوتية ليحقق رواية (مياه متصحرة) كأسلوب روائي معاصر اوجده التطور الثقافي الغربي مع وجود العوامل العرقية والطبقية في الشرق والغرب .كنت أخشى أن يقع في شِباك (العنكبوت) على صعيد تصالح طبقي بين ثقافتين كما كنت عام 1999 قد لمست نفس الخشية لدى الصديق الراحل علي كريم سعيد في مسودة مقال قصير كتبه إثر قراءته نصاً مسرحياً للكاتب البلجيكي – العراقي حازم كمال الدين.
يكتب حازم كمال الدين في روايته الاخيرة بأسلوب حواري بلسان بطله المدعو (حازم كمال الدين) عن مجتمع غريب الاطوار ملفوفٍ بخيوط عنكبوتية شفافة في بعض الاحيان وغير شفافة في احيان اخرى، لكنه بكل الحالات يكتب عن حالة الناس، آباء وامهاتٍ واجداداً واحفاداً، في مجتمع مقموع في المدينة والريف، مقموع في اتحاد الادباء، في المستشفى ، في الجامعة ، في المسجد، في العشيرة ، والطبقة، وهو يبحث عن تبعية المجتمع العراقي إلى ( كيان دولة عراقية ) في ظل تخلفٍ حضاريٍ حوّل السياسة إلى عمى، والبلد الغني بالثروات إلى متسول، خاصة اذا ما سعت بعض أحزاب الإسلام السياسي إلى إطفاء نور المعرفة .
اتذكر ان الصديق الراحل علي كريم سعيد طلب مني ذات يوم - بعد قراءته او مشاهدته لإحدى مسرحيات حازم كمال الدين - أن انظم له لقاء يجمعنا نحن الثلاثة لأنه كان يريد الاستفادة من اللقاء في مشروع بحثه عن اشكالية العلاقة بين التاريخ والمجتمع التابع للدولة من خلال الحوار مع الفنان حازم كمال الدين.. حين سألتُ علي كريم سؤالاً طوباوياً: لماذا حازم بالذات ..؟ أجابني بسرعة: (أن بعض قراءاتي لحازم اعطتني افكاره قدرة على تمييز كتاباته بانها جامعة بين المعقول واللامعقول تماما مثل خيوط العنكبوت، المعقولة واللامعقولة، التي قد تتوحد لفترة مؤقتة او دائمة) . ظننت حينذاك ان الدافع الاساسي لعلي كريم سعيد هو رغبته لمعرفة مدى تقبل الماركسية لإعادة صياغة الوسيلة الروائية من (الواقعية) إلى (خيال التحديث). اتذكر ان رأيي الذي عبرت عنه حينذاك هو أن الماركسية قادرة في كل زمان أن تتلاءم مع الاتساع اللازم لقبول علوم العصر وآدابه، وفقاً لنظرية التطور .
في حينه عام 1999 اقترحت عليه الاستعانة بالناقد الواسع العمق والمعرفة (ياسين النصير) للتعرف الدقيق على تخيلات حازم كمال الدين حول الاقطاب الواقعية في كتاباته المسرحية آنذاك. قلت له: ان ياسين النصير كناقد استوعب تجربة حازم كمال الدين في الشعر والرواية وفي التأليف والاخراج المسرحيين يمكن ان يقدم نظرة اصيلة عن اصول مغامرات حازم كمال الدين ورفيف نتائجها في مستقبل الادب والفن العراقيين .
الشيء المهم في مناقشاتي مع الراحل علي كريم سعيد انها افادتني لتكوين منظور عام عن فاعلية كمال الدين في نظرياته، التي وجدتها مستحدثة، تماماً ومثيرة وقوية في رواية أخيرة منحها تسمية ( مياه متصحرة) بالرغم من انني اعتقد ان المياه لا تتصحر ولا تتحجر لا في المعنى ولا في المبنى، الا في ابتداع الحكايات الاسطورية. كانت هذه الرواية خياراً ابداعياً عاجلاً فاز به مؤلفها ببراعة استخدام بلاغة سردية في الحكايات و المعاني التراثية بتوتر شديد مع اساليب وظواهر (ما بعد الحداثة) لتحقيق حالتي التأزم الروائي والمساهمة في انحلاله بواسطة ايجاد العلاقة بين الخوف والقلق والبلاء والمعاناة ، السائدة في الظروف العراقية الحالية.
ما يعجبني في كتابات حازم كمال الدين جميعها أنه قادر على التوسع في التخيل المفهوم، الواقعي والمنتحل، و أن يجعل لسان قلمه لساناً (عنكبوتياً) مصقولاً بدقة ابداعية نادرة، يختزل بها الزمان والمكان والمصطلحات، وهو يضع سيرته الفنية الذاتية الموهوبة بكثير من العلامات المبتكرة. يوزع سطور افكاره الروائية بطريقة عنكبوتية بارعة. لا يحرك قلمه في فضاء محدد فحسب، بل هو يحاول أن يكتشف في كل صفحة او فصل من كتابه كما في روايته الاخيرة (مياه متصحرة). كل فكرة يخضعها لتكنيك مغاير لما قبلها أو لما بعدها. افكاره يعلنها ثم يهدمها، يخلقها و يدحضها، باستخدام فعالية روائية معينة تمد خيوطها العنكبوتية في العمل المحدد بدقة متناهية كأنه يستخدم سيناريو التواصل والتمثيل والاخراج تحت نظر كاميرا سينمائية أمامية.
لا استطيع الجزم ان خيار حازم كمال الدين قادر على البقاء والاستمرارية بتوليد علاقة غير قلقة مع قرائه رغم ان شفافية نموذج هذا الكتاب هي قفزة في عتمة الادب العراقي المعاصر . هل كان في جزئيات روايته او معظمها ناجحاً في تقديم رواية تسلية..؟ هل كان صانعا لصيغة جديدة في قدرته التعبيرية الروائية بأسلوب جديد النوع..؟ هل استطاع أن يرتفع فوق مستوى نقاش الناس بأسلوب قد يكون ممتعا وجاذبا لقراء الرواية ..؟ إن اسلوب ما بعد الحداثة تجلى في عدة مسارات بروايته (مياه متصحرة). المسار الرئيسي تجلى، أولاً، في تقطيع فصول الرواية إلى نصوص موضوعة تحت عناوين متداولة ،حرة ونشيطة، تبدو للقارئ انها خيوط منقطعة عما قبلها أو بعدها ، لكنها تحمل مدلولات، واعية وغير واعية، معقولة ولا معقولة. في قلعة السجناء السياسيين يتحول حازم كمال الدين إلى (عقرب عملاق) عندما ينتصف الليل وانه سيقضم حناجر من يحيط به مستندا إلى خرافة فتاة من الاعظمية قيل أنها تحولت إلى (عقرباء عملاقة) قضمت حنجرة الشاب المسيحي ثم تزوجها جدّه عبد الحميد . انه مشهد من مشاهد الرواية العنكبوتية عندما ازدحمت بلادنا بالصراع الطائفي .
في بلادنا ،ارضاً وسماءً وناساً وانهاراً، امراض كثيرة غامضة وجد (الروائي العنكبوت) نفسه مسئولاً ان يتناولها في سياق الصراع اللغوي والعرقي ليكشف عن عفونتها ،محاولاً اعتبارها قمامة سوسيولوجية، يمجدها السياسيون الطائفيون، ويتعاطف مع طريقتها اعضاء ميليشيات اخترعوا (مثلث طريق الموت) في جنوب بغداد ، ليحقق لنا رواية من نوع خاص فيها كمية كبيرة من لغة الصدق الواقعي وكمية كبيرة من لغة الخيال . فيها تدريب روائي لكي يتدخل القارئ في هذا الامر ليتعلم التغيير الجديد الحاصل في مجتمع اجداد الحفيد حازم كمال الدين، القادمين في مستقبل اسسه (الروائي العنكبوت) على حداثة الصورة وبلغة ما بعد الحداثة، مقدماً تساؤلات كثيرة لمستقبل رواية عراقية لأساليب (ما بعد بعد الحداثة) في التاريخ الروائي العراقي ،حيث الذات ليست هي الذات الحالية، والعلماني ليس هو العلماني، والديني ليس هو الديني، والنور ليس هو النور، والظلام ليس هو الظلام، وممارسات الحكم في الدولة القادمة ليست هي كما، الآن، في الدولة العنصرية حسب الاعتقاد العرقي الخالي من الصحة النفسية والعلمية.
حازم كمال الدين يحاول ازالة الدولة الاسلامية الداعشية وكل دولة تقوم على اساس (الدين/ المسيس) وعلى اضطهاد عواطف الناس وعقولهم ولغاتهم . إنه يبني قيم الحداثة السياسية والحداثة التاريخية والتحرر من كل عملية متلونة بقدر من الذئاب الرمادية المرتدية اثواباً انسانية لكنها تحمل فؤوساً وبندقية . الروائي العراقي حازم كمال الدين ينسج للقارئ العراقي خيوطاً (عنكبوتية) فيها سلطة غاشمة، فيها دكتاتور، فيها خرافات عائلية، فيها كذابون ومنحرفون ، فيها انواع من الروائح الكريهة ، فيها يتيه القارئ بجلجلة بياض لا يضيء في الدجى ، إنه يبحث عن اللون والطعام والمكان والزمان بنسيج عنكبوتي يلف الوطن كله وحياة الناس كلها .
شخصية الكاتب المسرحي حازم كمال الدين ذات التركيبة الثقافية الخاصة ، ذات الاهواء الخاصة ،ذات الهمة الخاصة، هي التي منحت القدرة الخيالية، الهائلة والفريدة ، في رواية (مياه متصحرة) منحتها بعداً ليس ساخراً فحسب، بل منحتها قيمة الحياة المضجرة العنيفة، في العراق الحالي، من خلال الجمع الذكي البارع بين المعقول واللامعقول في حركة البطل العنكبوتية، من خلال الهوية الطائفية و الطغيان السلطوي، ليقدم نصاً نخبوياً – شعبياً كعلامة إضافية في الرواية العراقية القريبة لأقصى حد للوضع الخرافي غير المعقول الناشئ في بلادنا منذ عام 2003 حيث صوت الناس ما زال يتداور في الصدور بحسرات غاضبة، سينتج عنها تراث روائي ينبغي أن يكون مقروءاً لدى الاجيال القادمة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 2 – 10 – 2015