ادب وفن

فاعلية الحسي والذاتي و المثيولوجي .. قراءة في «الورد دموعه ملونة» / زهير الجبوري

من خلال متابعتي لتجربة الشاعر عادل الياسري, احتكمت قراءتي له بمعيار نقدي حساس, معيار انطوى على فاعليته المتواصلة في تقديم نتاجات شعرية شديدة الحساسية بذاته، أو تغور بدواخله فضاءات هاجسية متفرعة على مدارات غنائية , وأخرى تأملية , وأخرى حسية\ مثيولوجية, لا أعرف أن كان الاحتكام إلى واحدة من هذه الهواجس يكفي للوقوف عند محطة تجربته, فقصائده مشبعة بلغة خالصة, بعيدا عن أساليب الترف المزيف والاحتماء بفنية العبارات المظهرية.
مجموعته الشعرية الأخيرة (الورد دموعه ملونة), انطوت على قدر كبير من توهجات الحركة الشعرية المعبرة عن استخلاصات جميلة من مخيلة واسعة, رغم شعورنا العميق بتكرار مشهدياته عبر اغترابات قصدية, وهذا ما بان من وحدة الموضوع\ (العنوان), بوصفه يمثل (ثريا النص), ولعلني أمسكت بجميع قصائد المجوعة على أنها تكشف مناخات الشاعر من خلال تفرده بأسلوب شعري خاص به منذ مجاميعه السابقة, ف ( الياسري ) تمتد تجربته لعقود من السنوات, وهذا دليل مروره بمراحل أشبعته خبرة اختياراته الراكزة على جدل معاصر في كتابته القصيدة, لكنه ظل يلف ويدور في دوامته الذاتية المليئة بالإسقاطات الحسية لكافة الأشياء, انها اسقاطات اغترابية , التحمت في بؤرة القصيدة وشكلت له هما شعريا مؤثرا..
تستدعينا قصائد المجموعة للوقوف عند محطاتها عبر المستويات المتنوعة التي اشرنا إليها, غير أنها قصائد محركة للثابت أو مزعزعة في مضامينها, بمعنى أنها تبحث عن إثارة السؤال, رغم تموجاتها بمراحل ذهنية و رؤيوية, لكنها غير محيرة, بل وتساعد القارئ في الوصول إلى متعة التلقي, وتمنحنا إحساسا مسترخيا في مضمونها, وبانفتاح الرؤيا وصعود الموقف الهاجسي, والاستسلام للحس الذاتي المرتبط بالأشياء المحيطة به, في قصيدة (بين صورتها وحلم لم يجده), تنهض شحنات الذات واغترابها, من خلال الامساك بدلالة المعنى الراكزة في مضمون القصيدة, نقرأ: (مفكرتي\ بين اسطرها\ ضيعت حلما لست أذكره ) ص 9, هذه العبارات ومثلها في مناطق أخرى, رجحت لنا القناعة الممسكة بخيوط الشاعر, على انه متوهج بشحنات اللغة الشعرية ذاتها, وفي قصيدة (بين كفيك ) ثمة إحساس تواتري لفعل الجملة الشعرية الكاشفة على جدل الأخر, والمطلة على ذات منولوجية مشبعة بمشهدية واضحة وبمجازية الصورة الفاعلة داخل مضمون القصيدة ومطلعها الذي يقول :
كأسك التي لم تجئها
آخر الليل,
جاورها اليأس
لا كف العشيقة
صففت ايام غربتك
سيدي.., انك الآن سفر
بين آنية ... وناس ضيعوا رأس اوجاعهم . ( ص 29)
بصراحة لذيذة, عادل الياسري قدم تجربة معاصرة انطوت على وعي عال في صياغة نصوص ألغت الهوة بين تجاربه السابقة, وطرحت نتاجا شعريا أرضيته خصبة من حيث إطارها الثقافي, فهل ان هذا التمايز جاء من خلال التواصل والاطلاع في الميدان المعرفي الواسع, حيث الاطلاع يغذي المخيلة, أم ان حركة الحداثة في قصائده, هي حركة مرحلة عاش تفاصيلها وأجوائها بالشكل المطلوب, ككل, فان بعض القصائد التي أخذت المنحى المثيولوجي, برهنت ذلك, وأعطته شكلا معاصرا لمعنى الجملة الشعرية الحديثة , إذ قرأنا النصوص (أنا .. انت .. لم تزمّر له النايات), وغيرها, لنقف عند حدود تشخيصنا النقدي بمعيار الشعرية المشبعة بمضمون معرفي, رغم اللف والدوران بذاتية فضفاضة ملحة, وبقلق لم يتخلص منه الشاعر في كل مراحله, نقرأ في قصيدة ( أنا ):
أنا.. نسغك
الأيام أودعت في شعيراته الخصب
أعطت مياهه الملونة
الرعد في ازاهير الأسى
( ثم بعد ذلك ) :
لكنما التفاحة \ وشوشت في إذني اليسرى \ لك ..,\ اقترب هناؤك \ الذي ما انت مدركه \ في مائي الآلهة \ لم يرق لأولهم دنوّك مني) ص 109 _ 110 _ 111
صحيح ان العبارات كانت بائنة هنا في بعدها الميثولوجي, إلا انها سيقت برؤية معاصرة وبناءات دلالية واضحة , ف ( شعيرات الخصب والتفاحة, ومائي آلهة) شكلت بنية حضور للمعنى المعمول عليه , والشيء الملفت للنظر ان الشاعر استخدم نمطا شعريا بعيدا عن فعل التناص الذي نجده في نصوص بعض الشعراء الذين يكتبون القصائد بالموضوعة ذاتها ..كما نجد اهتمام الشاعر في تنمية فعل الصورة المثيولوجية من خلال استنهاض البعد الملحمي داخل مضمون الجملة الشعرية , وهنا نمسك بمشهدية البناء الشعري في خلق مناخ مجسد لحركة العبارات المعبرة عن المعنى , وهذا التجسيد ملموس, لأنه يمثل في بادئ الأمر الصورة الذهنية المنسرحة على الموضوعة ذاتها , نقرأ في قصيدة ( أنت ) :
خفق اجنحة
عاتية الريح ريشها
في الأعالي هفهف الرعد
ماء الالوهة
فاضت سماواته
أثقل الريح
لا تدري لأي المسافات تحمله
وأي المساحات يسكنها
( أنك فاتنة, قدّها.. فيه رائحة الخصب
والرحم غض ( ص 119 )
هكذا تتجلى قدرة الشاعر في صياغة نص يتماهى والمعنى المعمول عليه , لكني أجد ان النصوص التي أخذت الجانب هذا, هي نصوص تجسيدية, بمعنى انها تتناظر مع باقي النصوص الأخرى في المجموعة من حيث المشتركات الذهنية واللغوية والذاتية , وهذا بلا شك يقف عند النقطة الفنية في قراءة كافة نصوص المجموعة, وتحسب لصالح الشاعر في لملمة أسلوبه, وعدم التشظي , والاقتراب كثيرا في اكتشافاته الشعرية , ومحاولة تقديم ما هو جديد دائما في كل مرحلة من مراحل سيرته الشعرية ..(الورد دموعه ملونة), مجموعة تمتلك بنية متماسكة في دلالاتها الفنية, وتشكل تجربة متفردة للشاعر عادل الياسري, مع تعدد موضوعاتها وتنقلاتها الحسية والهاجسية, وفاعلية الذات المنتجة للمعنى الشعري, كلها أضفت للمتلقي عن لمسات ذاتية مضيئة, بل تسحبنا إلى تأملاته وحدسياته وكيفية التعامل مع بنية الجملة الشعرية بمستويات متعددة, أحسب انها اسقاطات جاءت لحظة تدوين نصه الشعري, ما جعلنا نقف عند مستويات الإلقاء بنوافذ متناظرة في إطارها العام, والشاعر الياسري تجلت تجربته بشكل ملحوظ بالإمساك بجميع موضوعاته (المضمونية ) وتوحيدها بمهارة اللغة الشعرية على صعيد البناء العام للقصيدة الحديثة والمعاصرة, أو عن طريق نمطية الأسلوب اللغوي واللعب بمهارة البناء الجملي في كل قصيدة أو مقطع شعري ..
ان الميزة التي تمتعت بها كل قصيدة من قصائد المجموعة , انها تتشبع بعمق تكثيفي واضح, وهي من ميزات القصيدة التي تشتغل على ( التكنيك ) اللغوي, ونجح في ذلك الشاعر عبر صراحة الأسلوب وعمق الرؤيا المفتوحة, أو حتى عبر مستوى البناء البلاغي الذي يظهر ببؤرات تشبيهية واستشعارية وتناصية سليمة , هي الأخرى كانت ذات بناء تكثيفي, لتعطي في كل هذا وذاك رشاقة الجمل الشعرية وقدرة الشاعر في التعامل مع النص الحديث داخل إطار الصنعة الشعرية المؤثرة, وهذا ما بانت فيه جميع النصوص.. وبهذه السمات التي يتمتع بها عادل الياسري في قصائده, فهي تنبئ عن تواصل لتجربة قادمة, تجربة تفتح منافذ الرؤيا بتأملات لغوية جديدة, أنا اجزم ذلك, فقد نوه لي الشاعر عن جديدة هذا, و كان صائبا في تشخيصاته, و ملما بكل تحولات النضوج الشعري, مع إقرارنا الحقيقي بأننا استمتعنا بهذه القصائد, مع إشارتنا على مستوى البناء الشعري والمنطقة التي بانت عليه, والموضوعات التي انطوت عليها القصائد, وما إلى ذلك.