ادب وفن

السطح في الفنون التشكيلية ( القسم الثاني والأخير ) / ياسين النصير

لا نقول مثلا أن هذه اللوحة الحروفية الحديثة هي لوحة إسلامية، لأنها تستعمل الحروف العربية، وأن كان محتواها حديثا نبويا أو آية قرآنية، فالفنية ليست لها علاقة بالفنان، ولا بموضوعها، الفنية هي الجمالية التي تعطينا إياها هذه اللوحة الحروفية، بمعزل عن أية أفكار توحي بها أشكالها، فارتداء الحجاب لا يعني أن المرأة إسلامية فقط، بل قد تكون من ديانة أخرى، وان تصفيف الشعر لا يعني انه خاص بامرأة معينة، كما ان تمثيل شخصية ما على المسرح لا يعني ان الممثل هو الشخصية تلك،فالتمثيل، أي تمثيل، يخرج من كونه تقليدا إلى صياغة جمالية لتكوين جديد رافضا في الوقت نفسه كل ما يمت بصله للممَثل، لا يمكن إعادة يوليوس قيصر كما رسمه شكسبير ولا كما هو شخصية إمبراطورية، إنما تمثيله هو الكشف عن درجات من وجوده في عالم اليوم، وثمة من يفوق يوليوس قيصر تكوينا وحكما،التمثيل في اللوحة الفنية تجريد عن التكوينات السابقة لها.
وبالتالي فاللوحة عالمية وليست لوحة دينية أو محلية، وأن استخدمت مواد وثيمة محلية، السوق العالمية هي فلسفة إذابة الحدود، إذابة الألوان،إذابة الأعراق، واعتماد الهجنة والهجرة والاختلاط، والانتماء للجمال الفني العالمي قبل المحلي، ومن يتعرف عليه من خارج فنيته، يعني ليس ثمة حدود عقلية أو فنية بين المكان والزمان.
3
بعد هذه الأولويات الأربعة التي يتسلح بها مشاهد اللوحة الحديث، نعود لموضوعنا، الذي رأيت من غير المناسب الدخول في تفاصيله دون هذه الممهدات التي يغفلها النقد باعتبارها ممهدات النقد الثقافي وليس النقد الفني، وهو فن السطوح، أو السطح في الفنون.
يقول سلفرمان» الفن يتيح إمكانية الحديث عن الفنان والعمل الفني» الفن غدا سجلاً ومدونة، وتاريخاً ومعلومة وإعلاناً وثقافة صادحة ومكرفون، ويبدو أننا نجهل كثيراً عن معنى الفن هذا، فالفن ليس الطريقة التي يعمل بها الفنان، أي الأسلوب، ولا هي الموضوع، اي الفكرة، ولا الألوان، اي المواد، ولا التقنية وحدها، اي الدربة والخبرة، الفن هو ما ينتج عن علاقة جدلية بين اللوحة والمشاهد، اللوحة حوار مفتوح،هذا الإحساس الجمالي المتنوع والمتعدد هو الذي يجعل آلاف المشاهدين يقصدون هذا المعرض او تلك الأفلام او المسلسلات التلفزيونية او مشاهدة الحدائق والعمارات والكرنفالات، لان الفن فيها هو الصياغة الجمالية لعالم متخيل ومحتمل وومكن ومدرك، وليس الفن انعكاسا للواقع الذي يمكن تقليده بأبهى صور وتقنية،فالفن يكمن في فكر الفنان والمشاهد والمرحلة معا،وياتي المشاهد المنفتح ليكشف المساحة التي تخصه عالمه اللامحدود فيها،ومن هنا يميل الفن الحديث إلى فتح أبواب للمجهول الجمالي، للتأويل، وعلى المشاهد ان يدخل ليكتشف، لا ان يدخل ليرى فقط. ثمة عملية جدلية تفرضها المشاهدة، وهي المشاركة الفاعلة في صياغة الرؤية الفنية الجمالية، ولذلك يكثر الفنانون من الأشكال الساخرة والمستفزة كاستهلال تحريضي لرؤية ما خلف السطح، إن التقنية التي يستعملها الفنان على المشاهد ان يدركها ثقافيا، فالتقنية منذ اليونان تعني « اسلوبا في المعرفة(...) اي اضهار للموجودات من تحجبها إلى حالة اللاتحجب»ويستعمل هايدغر مصطلح»اليثا»اليوناني والذي يعني كشف الحجاب، وليست التقنية خلط الالوان واستجلاب الآلة، ويبدو المشاهد انه يقف في منطقة الـ «ما بين» الهايدغرية للعمل الفني والفنية وهي «المنطقة التي تتداخل فيها الأفكار والتقنية والثقافة» المنطقة التي يتكشف فيها ما خلف الحجاب الذي تصنعه الالوان والكتل والخطوط،ويكون المشاهد بطلها..
بدأت ثقافة السطوح تنتشر بحضور فن ما بعد الحداثة ضمن سياق تطور الرأسمالية، الفن الذي يعرض للحياة اليومية المتغيرة بضاعة ضمن تسويق المعرفة، الفن الذي يميل لتجسيد الجزئيات طريقة للدخول إلى تفاصيل الذات، الفن الذي يمكنه ان يكون في كل المواقع دون ان يتلبس هوية ما، هو الفن العالمي، الفن الأثيري الذي يتشمم عطر افكاره الرجل والأنثى، الفن الجنساني الذي فسح المجال أمام الأفكار الحداثوية كالنسوية، والجندر، والشذوذ، والثانوي، والغرائبي، وغير المألوف، والأفكار المحرمة، والعري، والمكاشفة، واللا تحديد، ان تظهر على السطح بعد ما كان الفنان يخفيها خوفا من الرقابة والدين،هذا الفن مثل حشائش الحدائق يمشي أفقيا ليس له جذور تتصل بالأعماق لان له جذوراً شعبية، وكرنفالياً، وبصرياً، واعلانياً، ومن الحياة اليومية ويستوعب كل الرائين، ويحاكي كل الأفكار، وقد تأتى جانب من هذا الحضور لفن السطوح من الإحساس باللاعمق المقصود، حيث تهيمن ثقافة الإعلان على الإنتاج الفني،هذه الحركة السريعة للحياة اليومية، لا تجعل أية فنية مستقرة، فيكون الإنتاج الفني عاكسا لهذه الطبيعة المتسارعة دون ان يفقد جمالياته، بمعنى ليس من مهمة الفن ان يعيد إنتاج التاريخ ومعاركه وقضاياه الطبقية الكبيرة، من الصراعات والحروب ودور الأسر الارستقراطية، والبلاطات، والجماعات وغيرها، مهمته ان يضخ يوميا اكثر من صورة لبضاعته التي تنسجم وطبيعة اللغات والحياة المتحركة، والتي تعيشهما مجموعات البشر، والشخص اليوم لم يعد منتميا لما ينتج محليا، تجده وقد ارتدى الجينز، ويأكل التشريب، ويفكر مع صورة نانسي عجرم، ويغني لمايكل جاكسون، ويلعن ابو الإرهابيين، وعلى المستوى المديني لم تعد بغداد مدينة مثلا نقية من تأثيرات مدن عربية وعالمية، ليس من مكان نقي فيها، وليس من ثقافة نقية تضخها لسكانها، كل هذه البنى المتجاورة والمتحاورة تعيش حالة سوق «الشورجة» نداء وبضائع متغيرة، أفكارا وأشكالا تعيش على سطح الحياة اليومية للناس، وتجد من يلتقفها ويتفاعل معها، فالإنتاج السريع ينتج مجموعة من التصورات اليومية التي تتراكم لتولد ثقافة مغايرة لمدونات التاريخ.
تميل ثقافة السطوح لإظهار الرغبات الفردية المكبوتة، حيث ان غرض المنتجين هو أن يعزلوا الفرد عن مجموعاته الإيديولوجية، ويتجهون به ليس لأفكاره الثورية، بل لاستهلاكه المادي، وتلبية نزعاته الذاتية،لعل التلفون احد أهم الأشكال الحديثة في عزل الفرد عن مجموعاته عندما ينشغل طويلا في خلق عالمه الخاص ، بعد ان كان هذا العالم مسيطرا عليه من قبل الأبوين او الجماعات السياسية الضاغطة،الفردية والسطح صنوان للعزلة والابتكار، لذلك ففن ما بعد الحداثة جزء من ثقافة وتوجهات الرأسمالية المتوحشة في العالم.المعتمدة على الطاقات الفردية، هذه السياسة التي تميل إلى تجزيء العالم وتفتيت البنى الكبيرة: دولا، أو قوميات أو أسواقا أو إيديولوجيات هي ما تجد أفكارها في فنون السطح تلفزيونا ومسلسلات وفوتوغرافاً ولوحة وحتى عمارة،»إن جزءا من عناية ما بعد الحداثة بالسطوح ردها إلى الشكل الملازم للصور التلفزيونية، التي ترافق الحياة اليومية في مجالات العمل والبيت والرياضة والاعلان،» يمثل التلفزيون أول وسط ثقافي في التاريخ يقدم انجازات الماضي الفنية ككولاج مرصوف من الظواهر المتعاقبة،المتساوقة في الأهمية،»كما يقول ديفيد هارفي في حالة ما بعد الحداثة ص 86، والفنون التشكيلية فنون السطوح، القماشة والجدار، فهي من حيث البنية مرسومة على سطح،ولكنها بفنها ما بعد الحداثي نقلت موضوعها من القضايا الكبرى إلى القضايا اليومية العابرة التي تبدو اللوحة عبارة عن حالات لا شعورية متراصفة لمظهر واحد متكرر.ان التصاق فنون ما بعد الحداثة بالحياة الشعبية هو جعل المتلقي مشتر للصور دون ان يكون مثقفا بما فيه الكفاية، «لقد استحالت في عصر جمهورية التلفزيون العلاقة بالسطوح بدلا من الجذور، ووصفا للصور بدلا من العمل في العمق: وصورا مجزأة مفروضة بدلا من المساحات المصقولة» والشيء ينطبق تماما على اللوحة الفنية الحديثة.
4
ثمة نقلات كبيرة عاشها فن الرسم الحديث،لعل اهم نقله هي تجرده عن العلم، فالعلم لا يتعامل كما يقول ميرلوبونتي مع الأشياء المرئية انه يقف على مسافة منها، يتعامل العلم مع العقل و» التفكير العلمي لا يرغب في الدخول في المرئي»كما يقول سلفرمان، لذلك فسح المجال للرسم ان يكون مرئيا ومعاشا، ولكنه في الوقت نفسه يمتلك أعماقا وصورا محتجبة لا يمكنها الظهور دون أداوت المعرفة.ومن هنا يعاني مشاهد لوحة ما بعد الحداثة من فكرة ان ما يعرض أمامه وما يشاهده سبق وان عاشه وان رآه،او تخيله،لذلك ليس من عمق كبير في الافكار، وحقيقة الامر ليست بهذه السهولة، صحيح ان فن ما بعد الحداثة ينعكس على السطح،سطح الحياة اليومية وسطح الظاهرة الفكرية،لكنه ما وصل لهذه المنطقة الشعبية والتي تبدو عامة ومبتذلة لولا تجربته مع الأفكار الكبيرة ومعايشته لتقلبات الأزمنة والأمكنة والعصور، فالرأسمالية ليست نقودا وخطط وأسواق وشركات فقط كي تتوسع بهذه الطريقة وتستولي على اسواق العالم وتشد المستهلك لبضائعها وإعلاناتها، إنما هي إلى جوار ذلك كله، تقنية، ودربة، وخبرة، وثقافة، واموال، وقدرة على التسويق، وفهم لثقافة وعادات الشعوب، وتصنيع البضائع الملائمة للمناخ والطبيعة والأذواق والتقاليد والعادات. إن انتشارها هو نتيجة فهمهما لطبيعة حياة الشعوب، ثم استغلالها للمزايا الفردية والذاتية التي تميز شباب هذه الشعوب عن كبار السن فيها، وتفهمه لحاجات المرأة وتميزها عن حاجات الرجل، وبضاعة الصيف عن بضاعة الشتاء، وبضاعة البلدان الزراعية عن بضاعة البلدان الصناعية، وحاجات سكان الجبال عن حاجات سكان السهول وطبيعة ومدخولات البلدان النامية عن طبيعة ومدخولات البلدان المتقدمة،ليس السوق بضاعة ورأسمال فقط، انه الثقافة بكل تشعباتها وابعادها، وانه المستهلك الذي تصعب مخاطبه دون ان يكون ثمة شيء من ثقافته وتقاليده في البضاعة المعروضة في اسواقه. الرسم الحديث جزء من هذه البنية الكونية التي لو أغفلنا أبعادها نبقى في المعطيات الفكرية القديمة وفي التقنية الفنية الذاتية للرسام. ومن هنا لا تقترب اللوحة من العلم بالرغم من تيمنها له،»لأن النشاط العلمي يشغل نفسه بعالم الأشياء الطبيعي» والرسم جزء من النشاط العلمي دون ان يكون العلم جزءا ظاهرا من نشاط الرسم. ونجد ذلك في شعيرة من الأفعال هو الميل لإعادة عفوية الطفل في الرسم الحديث التي بدت اليوم ظاهرة تغذي فن السطوح، فاللوحة التي تملك الكثير من العفوية تتغلغل في أزمنة وأعمار وأفكار لا حد لها من التصورات اليومية، هذه التقنية التي يرسم بها فنان ما بعد الحداثة،هي من قبيل تجسيد الاشياء بعفوية ،كي يمكننا التخلي عنها،الرسم هو طاقة تجديد الذات، هكذا كان يفعل إنسان الكهوف يرسم كي يستولي على قوى الطبيعة، ويرسم كي يظهر قواه الذاتية، وهي أيضا جزء من قوى الطبيعة،فالرسم عبور من مرحلة التجسيد إلى مرحلة المعايشة المتغيرة.لذلك تبقى تقنية الطفل قائمة في كل فنون السطوح: كاريكتور التلفزيون وكارتون الرسم وسخرية المسلسل وإثارة النكتة وشعبية الأغنية وعمل تنظيم الحديقة واشتراك التسوق، كل هذه الحيوات تشترك في مجال القبول ثم الإعادة والتكرار.لتصنع بالتالي طريقة يومية لقبول الفن.
لعل أهم نقطة في رسم ما بعد الحداثة ان اللوحة لا تختزل موضوع ما،بل تصنع نافذة لتطل منها كل المواضيع البشرية، ومن هنا تتطلب من المشاهد المشاركة فالتعميم ليس معناه اللاهدف،إنما يميل التعميم إلى جعل المرئي مادة للتأمل العابر، كأي سندويج هامبركر يؤكل ضمن السرعة اليومية، ليس ثمة توسع بقدر ما نقول ثمة اختزال في إدراك المعاني المحتجبة، دعهم يقولون: هكذا قال شارلي شابلن يوما لمشاهدي أفلامه، فكل ما يقولونه كان يفكر فيه، ولكنه لم يقله كلاما بل قاله لغة صامتة شاملة عبر الصمت واللونين الأبيض والأسود كان يصنع جمالا لم يقف عند قومية او دين أو لغة. قبلة على أبواب المساء