ادب وفن

قراءة في مجموعة "سيّدات العتمة" للكاتبة الفلسطينية شيخة حليوي / محمد حياوي

طالما لفتت انتباهي نصوص شيخة حليوي القصيرة التي تنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، لجهة متانتها اللغوية والصور الصادمة التي تحتويها، وزادت دهشتي حين علمت أن مجموعة قصَّصها "سيّدات العتمة" هي الأولى لها، ذلك أن نضج الأسلوب وامتلاك أدوات الكتابة المدهشة وحضور شخصية الكاتبة القويّ يوحي بتجربة عميقة ومتجذرة في الواقع، وأكاد أجزم بأن انشغال الكاتبة بمهنتها في التدريس قد حال دون تفرغها المبكّر للكتابة الإبداعية، عدا ذلك فأن مستوى قِصَّص "سيّدات العتمة" ومناخاتها المبتكرة تؤهل الكاتبة للوقوف إلى جانب كاتبات عربيات مبدعات تمكن في السنوات الأخيرة من طرح أسمائهن بقوّة وحقّقن حضوراً لافتاً، لا سيما في عالم الرواية.
تولّد البداوة، بمفهومها التقليدي وليس القيمي، ضغطاً كبيراً على وعي أبطال قِصَّص "سيّدات العتمة"، ناهيك عن حضور شخصية الأم الطاغية والقويّة كرقيب صارم وخطّ دفاع أوَّل لمفهوم الشرف، في حين تغيب، في أغلب الأحيان، شخصية الأب المُهيمنة التي تظل حتى آخر المطاف مُعتمة على الرغم من ان طغيان القيم الأبوية في المفهوم البدوي وحضورها اللاواعي قد مارسا ضغطاً نفسياً دائماً على الفتاة ـ البطلة في جميع القصص، الفتاة مستلبة الإرادة والخاضعة مرّة، والمتمرّدة في أغلب الأحيان.
وفق هذه الرؤى تقيم القاصّة الفلسطينية شيخة حليوي يوتوبيا خاصّة عمادها المفاهيم المُلتبسة بين الشرف والعذرية وتغرب العقل المراهق وتفتحه الباسل.
مايميز هذه النصوص نجاحها في الامساك بمناخ خاص للغاية يستند إلى جملة من الثنائيات المتضادّة، فعلى صعيد المكان ثمَّة القرية البدويّة والمدينة، فلسطين وإسرائيل، الصحراء والبحر، البيت والمدرسة، وعلى صعيد المضامين ثمَّة التمرّد والخضوع، الحُبّ والكراهيّة، الحياة والموت، حتَّى على صعيد اللغة، ثمَّة الغنى والثّراء في اللغة الخاصّة واللهجة الفلسطينية الدارجة التي بُثت ضمن النصوص لتكون بمثابة أدوات جارحة للغة الكاتبة الحادّة والمرنة في آن.
هذه الإحالات تتجسد بوضوح في القصة الأولى "حيفا اغتالت جديلتي" التي تتحول فيها الجديلة العذراء إلى مرادف لمفهوم العذريّة نفسه، تلك الجديلة المُغتصبة التي قُطعت وعُلّقت على الجدار ليس بعيداً عن تباهي الرجل ـ الحلّاق برجولته العوجاء، الجديلة المحفوظة على مدى الطفولة من العطب، مبعث خوف العذراء وخلاصة تربيتها الشرقيّة ومَحطّ مباهاتها، فُضت عذريتها بلحظة من الزمن وعيون الفتاة ترنو إليها كلّما مرّت أمام دكان ذلك الحلاق، وفي الوقت الذي تتجسد فيه البادية بتقاليدها الغليظة في كوخ الأهل الصغير، تفترش حيفا ـ المدينة ذاكرة العذراء الغضّة، وكأن التخلص من الضفيرة بمفهوم البكارة هو بطاقة الدخول إلى عالم المدينة الكبيرة حيث لا حياء ولا تردّد ولا عَيب.
يتكرر مشهد الفتاة نفسها في قصّة "سأكون هناك"، أقصد تلك الفتاة المُتعثَّرة بأذيال تربيتها البدويّة، الراغبة بالتمرّد والانتصار لرغباتها ـ إنسانيتها وسط أصدقاء المدينة، وثمَّة حرص ساحق يُمارس على وعي الفتاة توّلده الراهبة ـ المعلمة في المدرسة والأم ـ حارسة الطفولة وجدار الصد الصّلب المقاوم لاندلاق مراهقتها، الراهبة في تحضّرها وفهمها لسلوك الفتاة غير المُشذّب والغجري "تنزع أقراطها بقسوة لتطهرها من أدران الشرق المتخلف وترميها في علبة مُعدة للخطايا الصغيرة"، والأم لسعيها المحموم من أجل المحافظة على شرف البنت وبداوتها، وتحت وطأة هذا الصراع تنسحق المراهقة وتغرق في الشكّ بمصيرها "أنجو من شرك البداوة لأقع في فخ الغجر"، المُلفت في هذا النص قدرة الكاتبة على توظيف اللهجة الفلسطينية الدارجة لترسم واقعاً مهولاً أكثر مرارة من الواقع نفسه..
ـ حمّه وحيّة جدرة.. ما تستحي عحالتش؟.. تشذبي عليَّ؟.. والله لكصف عُمرتش..
الثيمة نفسها تتكرر في قصّة "كالنجوم يتساقطن من السماء"، الفارق هنا يتمثل بشجرة بلوط ضخمة، شجرة الجن، أو شجرة الأمنيات، تتأرجح بحبالها الفتيات بين سماءين قبل أن يتساقطن كالنجوم عند الجذع القاسي ويسفح دم عذريتهن، لا سيما دم جواهر، دلالات الأسم هنا واضحة بالتأكيد، فجوهرة البنت عذريتها التي يجب أن تُصان، حتَّى لو حلّقت بين سماءين وسقطت وسط صاحباتها مثل نجمة حالمة.
في قصّة "فستان وردي" يغوص الصراع عميقاً في عقل الفتاة، النص هنا يجسد شكّ المراهقة باكتمال جمالها ـ انوثتها ومعاناة صقله وتشذيبه، فانعدام التناسق بين نهديها النافرين والزغب على ساقيها طالما شكّل تناقضاً يشبه إلى حد كبير ذلك التناقض بين مفهوم العيب البدوي والسعي لعرض الفتاة على النسوة الأخريات، البطلة هنا يتنازعها نقيضان، إنوثة صارخة في الأعلى وأخرى مُعابة في الأسفل، الإيحاء هنا يحيلنا إلى الخارج والداخل، الجانب المرئي المعُذِب والجانب المُدارى بحرص عن عيون الآخرين، حتَّى وإن كان مُعاباً.
تتجسد مفاهيم الحب في هذه القصص بطرق مختلفة وصارخة أو صادمة في الحقيقة، أحياناً حُبّ مُداف بالرغبة ودهشة المراهقة، وأحياناً مُنتهك ومُستلب الإرادة، كما هو الأمر في قصّة "عليَّ" التي تتجسد فيها الدهشة الطفلة من الرخاء في المستوطنات اليهودية والنساء الإسرائيليات الناعمات اللواتي يختلفن عن نساء القرية شبه الميّتات.
ولعل التجسيد الفذّ للغرابة والتغرب نراه بشكل مدهش بقِصّة "أفعى" التي نتعرف فيها على البطلة الميّتة ـ الحيّة، ميّتة لأنها مُمدّدة على دكّة تغسيل الموتى، وحيّة لوجود أفعيين آسرتين موشومتين على ردفها وعانتها، المرأة ـ الأنثى الميّتة ترفض أن تستسلم وتنزع أسلحتها المدوّخة أو تكف عن ابتكار انوثتها، تلك الأنوثة التي تركت زوجها منسحقاً في أتون التذكّر. الأفعتان تسعيان بين ردفيها وفخذيها الصقيلين، لا تبرحان مكانيهما ولا تتراجعان، كما لو كانتا حارستي المداخل المقدّسة، هي فتنة الأنثى المتمرّدة المنتصرة لانوثتها، الفتنة التي لا تكاد تُفهم من نساء اليوميّ الخائضات في العَيب والسعي لنيل رضا الزوج الذي هو رضا الله نفسه..
ـ ماذا تقولين؟ أفعى؟
ـ أثنتان وليست واحدة
ـ أثنتان؟ لا أشبعها الله
ـ لا.. والأدهى أنَّها موشومة على..... مؤخرتها!
ـ والأفعى الثانية؟.. دخيلك أم أحمد لا تقوليها.. ييييييييييييي...... عند ...........
في الواقع "لم تنم نعيمة "غاسلة الأموات" تلك الليلة. كانت الميّتة تتمدّد بجمال بجانبها على السرير وأفاع تتكاثر عند الحافّة. تتكاثر وتلتهمها". لتتحوّل أفاعي الميّتة الجميلة إلى أسطورة من الغواية واستدعاء قصص القرآن والتسبب باخراج آدم من الجنة. "صارت الأفعى حديث النسوة في صباح الثرثرة وحلم الرجال في ليالي الشغف".. يا إلهي! هذا النص يقذف بحقائقة الصغيرة بوجوهنا وينثر صوره الغامضة مثل مسامير حادّة في الطريق إلى المعنى. وليس بعيداً عن هذا المفهوم يفتح لنا نص "الحبّ كُلّه حبيته فيك" غياهب الحظر أو الممنوع في ظل البداوة، التي هي ليست نقيض التحضر كما في المفهوم السطحي للمعايير، إنما هيمنة الصلب القاسي المُتحفظ الناكر لوجود الروح، أو قل الجاهل بوجودها لجهة اختلاف أدواته في التعبير عن مكنوناته.
ـ ما عنديناش بنات يحبّن
قاطعة مُحرمة ممنوعة ومجرّدة تطلقها الأم بوجه الفتاة لتحدّد مصيرها وتتأكد من اعطاب قلبها البض النابض خوف ان تسوّل لها نفسها بالتمادي، أما الأب فهو لا يصرّح بذلك تاركاً للأم اللائذة بظلّه تلك المهام الصغيرة، هو يتدخل فقط حين يُحسم الأمر ويصدر الحكم القطعي.
"البدوي عنده كل ما يشتهي الضيف ما عدا بنت تحب"، لتنشأ البنات وفق تلك الرؤية في قرية "أم الزينات" التي تلملم أطراف بداوتها على نسائها "الزينات" صوناً لهن من عار الحُبّ، لتجردهن تلك التقاليد الجافّة من وجيب قلوبهن إن هَفَت أو وهنت بفعل الحُبّ أو الرغبة السريّة لا فرق "كل الزينات الجميلات عاقرات حبّاً ومختونات قلباً"، وعلى أحد ما تعقيمهن من الخطيئة، اما أولئك غير المعقمات منه أو تعقيمهن معاب سيختفين ذات ليلة ولم يسمع بهن أحد بعد ذلك وسرعان ما تنساهن القرية "اللواتي أحببن ـ حتَّى ولو بالغناء ـ أختفين"، لكن بالنسبة للنص الذي يبتكر معجزته دوماً، فأن الاختفاء بذاته تسام يشبه تحرر الروح وانفلاتها من الجسد المخفي "مَن تحب تزداد جمالاً وتسكن السماء".
من النصوص التي تتماهى فيها مفاهيم العار والعَيب والعذريّة نص "ف ا ج ر ة" الذي يقدّم الفتاة كنكوص محتمل، أو عار متنقل على وشك الفضيحة، حتَّى أن البدوي ـ في النص ـ يتمنى لو كان نسله كلّه من الذكور ليطيب نفساً وتطمئن روحه من خوف العار الوشيك، ولأن البنت عار محتمل والشرف زجاجة تمشي على قدمين فعلى الأم أن لا تغفل عن ابنتها ولو لحظة، فما بالك بالبنت التي تسعى للتسجيل بمدرسة داخلية في مسعى للخلاص من هيمنة الشك. حتَّى العرف المهيمن على النفوس ليعجز عن تخيّل الأمر "البنت اللي تبات برّه أكسر وراهه جرّة"، لكن البنت راحت تدرس في جامعة تل أبيب وهي تنام برا إذن!!. في نَص "باب الجسد" الوطء نفسه يضغط على نفسيّ الأب والأم، بسبب التفكير في ارسال ابنتهم إلى مدرسة داخليّة، لكن بروز نهديها يلفت انتباه سائقي الشاحنات عند الفجر. "ماعلاقة حجم النهد بالمدرسة الداخلية؟"
إلى أي حدّ يحفّز جفاف الروح هذا نزعة التمرّد لدى الفتاة؟ كيف يستفز روحها المقاومة؟ أقصد التمرد الذي يحوّل مجرد اخراج الرأس من الكوّة إلى انتصار أو صفعة على وجه الجلاد؟.
لن تهدأ لهفة الروح وميلها للانعتاق والتحرّر من وطأة العُرف المهيمن المتمثل بالعائلة والأعمام والعشيرة، كما في نص "سؤال خنجر" عندما تبتكر الطرق في حيفا مساراتها المبتعدة عن القرى، وعندما يتحوّل الرجال إلى جدران عازلة ليتجسد التحدي العذري في فتح زر آخر من القميص.
نصوص العتمة في الواقع هي نصوص الغياب او التغييب. أجيال كاملة من النساء، كبيرات وصغيرات، شابّات ومراهقات يافعات، حالمات أو لسن كذلك، يمتلكن ذرّة التمرد أو لا يمتلكنها، نشأنّ في غياهب الخوف من وقوع المحظور أو انكسار الزجاجة، ووضعن بعناية فائقة تحت رقابة الرجال في محيط العتمة ليتمتعن بانكساراتهن وصغائرهن اليومية المتمثلة في الغالب بقدور عملاقة متوارثة مع مرود الكحل، سيّدات العتمة يتلخص مفهوم السعادة عندهن بمعرفة اتجاه تحريك اللبن المطبوخ أومتى تُضاف البهارات وأين يحتفظن بالأسرار وكيف يقسّمن الحكايا القديمة، أما الحديث عن الرجال فهي مسروقات سرّية على حافّة الخوف أو على حافّة المتعة، أو حتَّى على حافّة الحقد، لأنَّهن ببساطة لسن عارفات بمصيرهن وما مقرر لهن سوى ما مسموح بانكشافه، ومع ذلك يدركن بفطرتهن، أو قل يعتقدن بوعيهن المكتوم، أن العتمة ليست سوداء تماماً.. لأنَّهن لم يرين النّور في حياتهن حتَّى يميزن درجات الأسود.
إمرأة العتمة حين تُسأل عن شيء ما تكون إجابتها جاهزة "والله ماني عارفة".
سيّدات العتمة في قصص شيخة حليوي إذن لا يعرفن مدى سواد عتمتهن، لتتمادى القاصّة في مخاضة مأساتهن وتطلب لهن الرأفة. لكن مجموعة "سيّدات العتمة" أعمق من أن تكون طلباً للرأفة، أنّها نصوص خالصة مقشرة وحادّة تطلق حقائق النساء الشرقيات بوجوهنا مثل دُخّان أسود، نعم أسود لكنَّه مُسكر في الحقيقة.