ادب وفن

«عقيل علي» واستعادة الطائر الذي توارى / علي حسن الفواز

استعادة الشاعر إلى الذاكرة تشبه الى حد كبير الدعوة إلى استعادة الحديث عن حكاية لم تنته فصولها، أو لحظة وجدٍ عتيقة لها رائحة الألفة، لأن فعل الاستعادة سيكون شغفا أكثر مما هو هاجس للقراءة، وباعث للتحريض على تفتيش سرائر القصيدة وحمولاتها ومجازاتها.
الكتاب الشعري الجامع الذي أصدرته مؤسسة "أوروك" للإنتاج الثقافي عن الشاعر الراحل عقيل علي/ بغداد/ 2015 بعنوانه الاستعادي "طائر آخر يتوارى وقصائد أخرى/ إنطولوجيا شعرية" يضعنا أمام هذا الهاجس، فعقيل علي شاعر أختلف الكثيرون حوله، رغم أن قصائده التي جمعها وأعدها الشاعر والمترجم كاظم جهاد تحولت أثرا شعريا لتجربته المثيرة للجدل، وصدرت في كتابين شعريين حملا عنوانين "جنائن آدم" و"طائر آخر يتوارى"، صدر الأول عن دار "توبقال" في المغرب عام 1990والآخر عن دار الجمل باريس - كولونيا عام 1992..
عقيل علي لم يشأ أن يكتب سيرته في القصيدة، بقدر ما كان يكتب حدسه، ويتلذذ باللغة لأنها منقذه الطهراني من بشاعة ما يحيطه، وما يثير في نفسه الضآلة والانكسار، إذ كان بـ "الرغم من هشاشته الظاهرية، يتمتع بقدرة على شعشعة الجراح، قدرة نادرة مكّنته من بلورة نشيده الشعري بعيدا عن النواح المتفجع ومنعه من أن يتنازل عن كثافة اللغة الشعرية" كما يقول كاظم جهاد.
ضم الكتاب مجموعتيه الشعريتين السابقتين مع مجموعة شعرية ثالثة حملت عنوان "دوزنات" لم تنشر سابقا، قصائدها تنوش ذاكرة الحرب التي عاشها جنديا، والحياة التي عاشها لصيقا بالخوف والحزن والهشاشة، فضلا عن العديد من الكتابات النقدية حول حياة الشاعر وتجربته، كتبها نقاد وشعراء عرفوا تجربته عن كثب "كاظم جهاد، حاتم الصكر، اوروك علي، كريم ناصر، علي البزاز، خليل مزهر الغالبي، كريم شلال، مازن معروف" والتي حاولت أن تلامس حساسيته الشعرية، قلقه الشخصي، هربه من الشهرة، ورؤيته الشعرية التي إنحاز فيها الى كتابة قصيدة النثر تماهيا مع روادها أنسي الحاج بشكل خاص، دونما تأثير واضح من أقرانه الشعراء الذين انشغلوا بهوس المغامرة والتجريب أمثال شاكر لعيبي وخزعل الماجدي وزاهر الجيزاني وهاشم شفيق وغيرهم، حتى بدت قصيدته لصفائها تميل للاكتفاء بنفسها، فلا نجد تناصات واضحة، ولا مقاربات مجاورة لشفرات التاريخ أو للخطاب الديني والأسطوري، انشغلت قصيدته بفكرة البحث عن المعنى، والتوقف عند الجملة القصيرة المحببة، تلك التي تستغرقه بإحساس غامر بكثافة الوجود، مع افتضاح ملتبس لرهاب "الأنا" التي تتكأ على الحلم كثيرا، جملته- رغم قصرها- تكتظ بالاستعارات التي تكشف عن قسوة اغترابه الداخلي، وعن إحساسه العميق بالموت..
لا أحد هناك
والبيوت أفق شاسع
لا أحد هناك
وحدي أسمع تبعثر الموجة، أسمع إضراب أشلائها
لا أحد هناك..
استعادة عقيل علي المولود عام 1949 بعد رحيله في 15/5/2005 تكشف عن جوانب خبيئة في الزمن الشعري العراقي، إذ يرث الشاعر الكثير من مراثي الخوف القديم، فهو يكتب موتورا، فزعا، يخشى أن تطوله أشباح السلطة، أو أشباحه الشخصية، يبحث عبر الكتابة عن اطمئنانات واهمة لا تنقذه من "سأم المدينة" البودليرية والتي جاءها متأخرا في التسيعنات باحثا عن شغف قديم، لكنها لم تُسعفه أيضا، لأنها مدينة محاصرة مثله، وأفقدته الكثير من توازنه رغم توهجه الشعري الذي أثار حسد الآخرين وشككوا في تجربته الشعرية، ولولا جهود صديقه القديم في الناصرية الشاعر والمترجم كاظم جهاد في العمل على جمع قصائده لفقدنا أثره، فقد دأب منذ الثمانينات على تبني طبع كتابه الشعري، لكن الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982 أضاع كل شيء ومع مخطوطات كتابه الشعري "جنائن آدم" الذي أعاد جمعه عام 1990 ليطبع بالتعاون مع الشاعر محمد بنيس في المغرب عن دار توبقال، وكذلك طبع كتابه الشعري الثاني "طائر آخر يتوارى" عام 1992 وليبادر الناشر خالد المعالي صاحب دار الجمل بإعادة طبع المجموعتين معا في منتصف التسعينات..
يقترح الشاعر كاظم جهاد قراءة لشعرية عقيل علي عبر عنونة مقدمته النقدية "أبعد من الصمت ينتشر كدح فضاء شاسع" إذ يضع القارئ أمام الكثير من فيوضات الشعر الذي يساكنه، والذي يضعه عند لحظة استنفار غريب، يهيم بالحياة، لكنه لا يطمئن إليها، يطارد المعنى فيخزه عبر شفراته ليكون أكثر شراهة في التعبير عن وجوده المضلل، والعائم، إذ تكون صعلكته الوجودية والكحولية احتجاجا على هذا الوجود، ونوعا من المواجهة التعويضية التي ينفر إليها بحثا عن زوايا مغشوشة وأيام لم يعد يشاطرها اللذة...
عنّا أيتها المُجنحة تتخفين!
ها أناذا أطوي كل رماحي التي صوبتها نحوك،
والجأ للمروج أداعب إنهلالها،
أتذكّر أفراح الله الثكلى،
أتذكّر الأصدقاء المحنطين في الصرخة- صرختي أنا،
أتذكّر بطشهم
بنيران التساؤل
ها أنذا أحصي كل ما أملك:
بيوتا مقفرة، تسبح، هي أمواج تتلكأ على حافات النهود
سماوات مبهرة
وهذيان
انهضي.. انهضي أيتها السبل المحنطة من الدموع الأبدية..
ويضعنا الناقد حاتم الصكر أمام شعرية السبعينات وحضور عقيل علي في أجوائها الصاخبة، إذ يجد في إنعزال عقيل علي عنهم بمثابة الحضور الضد، ولإبراز خصوصية قصائده ومذاقها الخاص، وتمردها على الصوت الأيديولوجي الحاضر بقوة في الوسط الشعري العراقي، كما أن عقيل كان أكثر شعراء السبعينات تمثلا لروح البيان الشعري الذي أصدروه عالم 1974 والمنشور في مجلة الكلمة، إذ احتفظ بروح القصيدة اليومية وأجوائها الغامرة بأسئلتها الوجودية والإنسانية والتي جعلته فيما بعد أكثر ميلا للعزلة التي أخذته الى رعبها واستلابها، وربما الى فجيعة موته الغريب، حيث وجوده ميتا على الرصيف بثيابه الرثة ونحافته التي جعلته أكثر خفة في مواجهة موته احتجاجا...
هذا الكتاب الاستعادي عن الشاعر عقيل على يتيح للكثير من قرائه معرفته عن كثب، فكتبه الشعرية التي صدرت في التسعينات لم تصل من نسخها الى بغداد إلاّ مجموعة قليلة، وهذا مادفع صاحب مؤسسة أوروك إلى أن يقول في استهلاله للكتاب: تتبعت المؤسسة كل نتاجه وأوراقه الشخصية ونشرت بعض القصاصات بخط يده للتوثيق. هذه النصوص كاملة ماعدا ثلاثة نصوص هي "دوزنات بحوزة الشاعر السوري نوري الجراح ولم نستطع الحصول عليها" هذا الحرص على استعادة موروث الشاعر وأوراقه يلقى بظلاله على "فقدانات" كثيرة في الذاكرة الشعرية العراقية المعطوبة برعب التاريخ والحروب والهجرات...