ادب وفن

«بيضة العقر».. استراتيجية الرواية التسجيلية / محمد يوب*

الإنسان كائن سياسي لسبب بسيط، هو أنه شديد الالتصاق بالواقع وهمومه وصراعاته؛ ولا يمكن للكتابة الروائية المنشغلة بهذا الهمِّ إلا إعادة إنتاج السياسة بطريقة أدبية؛ تحاول الهرب من لغة التفاصيل المُمِلة إلى اللغة الروائية الفنية.
ورواية "بيضة العقر" للأديب محمد الهجابي مسكونة بالهمِّ السياسي؛ لأنها عبارة عن متواليات سردية تَحملُ قناعاتِ الكاتب الفكرية؛ التي أهملتها التواريخ الرسمية؛ بوصفها حاملا نصيا فكريا لمشاكل المجتمع وقضاياه؛ تعالج روائيا مفردات النضال السياسي وتتعرض للآثار النفسية التي تركتها كل تلك الإشكاليات في نفسية الشخصيات الناطقة بالوعي السياسي في المراحل التاريخية التي تنتمي إليها؛ وهي مرحلة السبعينيات وبداية الثمانينيات.
إنها رواية تسجيلية تمردت على ميثاق السيرة الذاتية لتدخل لعبة التخييل الذاتي؛ حيث نشعر بأن الكاتب لم يعبر عن أحداث روايته بضمير الأنا، وإنما ترك للضمائر حرية التعبير وحرية اختيار الأسماء المستعارة التي فرضها راهن الفترة التي حكت عنها الرواية؛ أسماء مثل زايد والهلالي وليلى ويامنة، وهذه الأسماء تنتمي في فترة من الزمن إلى عائلة الحزب الشيوعي، وهي "العائلة الأصح؛ باقي العائلات؛ بما في ذلك العائلة البيولوجية؛ هي عائلات مكملة ليس غير". وفي فترة لاحقة أصبحت تنتمي إلى عائلة المنظمة السرية "على أن الهلالي لم يكن يدرك الإدراك الكامل؛ أنه بانتسابه إلى الحزب إنما يتمرد على ذوائق انتمائه الأول؛ انتماؤه الأول انتماء اغتصاب لحريته الشخصية؛ انتماؤه الثاني هو إعادة اعتبار لهذه الحرية".
لقد استطاع محمد الهجابي تأثيث التاريخ وأحداثه بشخصيات ورقية؛ وأضفى عليه لمسته وتأويله لمجريات الأحداث. فالبطل زياد المثقف، الذي يعيش الحالة السياسية وانعكاساتها، يتفوق على كل من حوله لأنه البطل الرومانسي الذي يعيش حياته بالطول والعرض في زمن النضال. فالروائي يستخدم بطله في النضال السياسي ومغامراته العاطفية كخلفية لتأمل تاريخ المغرب الحديث بكل تعقيداته.
إن "بيضة العقر" رواية نابعة من تصور السارد الذهني للأيديولوجيا التي يؤمن بها؛ ونقلَها أدبًا بأن أضفى عليها ما سماه رومان جاكوبسون بأدبية العمل الأدبي.
فالأديب محمد الهجابي يحاول أن يسترجع الذاكرة المنسية من تاريخ النضال السياسي العلني والسري في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لكن عبثا ما نسعى إلى بعث ماضينا؛ فكل جهودنا الواعية لا تجدي نفعا؛ ويظل مدفونا في أعماق وجداننا؛ لكن في مجال الإبداع الروائي لا مجال للمستحيل فيه، حيث متخيل السارد وحده قادر على انتشال الأيام الغابرة من هوة العدم؛ إلى العالم الممكن، حيث استطاع الأديب محمد الهجابي استثمار منجم ذاكرته الخصب ليستخرج منه مادة هذا الصنيع الفني؛ حيث يتوقف به الزمن عن الجريان ليعود به إلى الماضي؛ ويكف عن أن يعيش حياته كي يتذكر ما مضى منها؛ لينسج منها مادة روائية هي رواية "بيضة العقر" حيث يعود إلى الذاكرة اللاشعورية التي تصون الماضي بكامله.
والذاكرة باعتبارها خزانا يستمد منه الكاتب مادته الأدبية تنبني وتشيد بحسب "أمبرتو إيكو" انطلاقا من وجود تمثيل موسوعي يستوعب داخله كل العناصر التي تنتجها الحياة والتي عاشها الأديب ونقلها أدبا؛ وغايته من ذلك خلق عوالم ممكنة تشابه أو على الأقل تماثل العوالم الحقيقية التي عاشها الكاتب في حياته الواقعية.
حقيقة لا يمكن تحقيق العوالم الممكنة بشكلها الطبيعي؛ لكن يمكن تحقيقها في الرواية بشكلها الثقافي؛ وكل بناء ثقافي هو في الحقيقة اختصار للتجربة الواقعية؛ يزيل عنها صفة الزمنية الضيقة، حيث ينقلها من عالمها الخاص الذي نشأت فيه ويحولها إلى ظاهرة عاملة تلتقي فيها رؤى متعددة فيها ما هو تخيلي يكون من جهة الكاتب وما هو تخييلي يكون من جهة القارئ؛ وتتعدد القراءات بتعدد الحمولة الثقافية والمعرفية لكل واحد.
وعندما تصبح الأحداث الخاصة أحداثا عامة؛ تصبح في النهاية ملك الجميع، وكأن الرواية مكتوبة بأياد متعددة؛ وانطلاقا من هذا المنظور نشعر بأن "بيضة العقر" هي روايتنا جميعا؛ أو على الأقل رواية كل من عاش مرحلة النضال الطلابي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي التي عُرفت بمرحلة الرصاص؛ التي تعرض فيها كثير من الطلاب إلى القتل أو على الأقل إلى الاعتقال. وهكذا تنمو الرواية وتنهض بحركية أحداثها ونضالات أصحابها؛ فيها حيوية الشباب واندفاعهم لتجريب أيديولوجيات متنوعة؛ أيديولوجية الحزب من جهة الذي لم يشفِ غليلهم؛ وفي لحظة ثم تغيير عنوان قناعاتهم الحزبية بنموذج نضالي آخر يشتغل في السر؛ وهو نضال تنظيمي يغير مقرات اجتماعاته من حين لآخر كلما شعروا بأن يد المخزن تقترب منهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد مغربي