ادب وفن

رحيل شيركو بيكس.. خسارة للثقافة العراقية الكردية / علي أبو عراق

عبّر الكثير من الشعراء العراقيين عن حزنهم البالغ برحيل المبدع الكبير الشاعر العراقي الكردي الكبير شيركو بيكس، الذي وافاه الأجل في العاصمة السويدية استوكهولم، بعد تدهور صحته حيث كان يرقد منذ فترة في احد مستشفيات السويد. ورأوا أن رحيله خسارة كبيرة للثقافة العراقية، وخصوصا الكردية منها، عازين ذلك إلى كون الشاعر الراحل عتبة مهمة وتاريخية في الثقافة الكردية ومجددا كبيرا فيها، فضلا عن كونه علما بارزا في الشعرية العراقية المكتوبة باللغة الكردية.
إذ قال الشاعر كاظم الحجاج "الشاعر شركو بيكس أحد عظام الشعراء في عالمنا هذا، وهو شاعر ملحمي دوما، شاعر مطولات لا تمل، من مثل (كتاب القلاده) و(الكرسي).
إنني اعتز جدا بهذين الكتابين المميزين في مكتبتي وإن كانا مترجمين إلى العربية".
وأضاف: "أفتخر أني التقيت بشيركو الكبير في مهرجانيين شعريين كبيرين، أحدهما في السليمانية، والآخر في أربيل، وتشاركنا في إحياء جلستين".
وختم الحجاج: "أنه فخر أن تقرأ بعد شيركو مباشرة، وأن تجلس معه جلسات حميمية في الفندق نفسه، انه شاعر كبير وإنساني كبير، مناضل ومتواضع وحميم، لا ينسى أبدا..... لن ينساه العراقيون".
لم يكن شاعرا كرديا فحسب بل هو شاعر عراقي بامتياز
وقال الدكتور نوزاد اسود مدير مؤسسة كلاويش الثقافية: "تعرفت على الشاعر الكبير شيركو عن قرب وكنت من أصدقائه المقربين ومطلعا على نتاجاته الشعرية خلال 50 عاما، فهو شاعر له دور كبير في تطور الشعر الكردي واللغة، فهو شاعر أثرى المنجز الشعري وأرسى أسسا جديدة له وخرج عن السائد والمألوف مجددا ومحدثا ومبدعا".
وأوضح: "وأبدع شيركو في كتابة نوع جديد من الشعر وهو الشعر الملحمي، كما ساهم في الستينات في إصدار بيان (المرصد) الذي سعى هو مع بعض مجايليه من الشعراء إلى تجديد الشعر الكردي واللغة الكردية".
وأضاف "كما ساهم شيركو مساهمة فعالة عند انخراطه في صفوف (البيشمركه) من تجديد وإشاعة شعر المقاومة؛ إذ كتب قصائد ملحمية مهمة ساهمت في تصعيد حركة المقاومة للشعب الكردي وتعزيز النضال الوطني العراقي ضد الدكتاتورية الفاشية".
وتابع اسود "وفي الفترة الأخيرة ابتدع الشاعر أسلوبا جديدا وهو كتابة القصيدة الروائية وإلقاؤها عبر الفضائيات بشكل ممسرح أداءً وصوتا، فضلا عن انشغاله بكتابة النص المفتوح الذي تتعايش داخله عدة أجناس أدبية".
مستدركا "كما كان الشاعر من المدافعين عن الصحافة الحرة وحقوق المرأة والحريات العامة".
واستطرد "خلال 50 عاما مر الشاعر بالكثير من المحطات الشعرية والأدبية والنضالية، وكان في كل هذه المراحل يطرح آراء وأفكارا وأساليب جديدة، لذلك سيبقى تأثير أدب شيركو هاما ومركزيا في الشعرية الكردية لفترات طويلة ".
ورأى اسود أن "شيركو لم يكن شاعرا كرديا بل شاعر لكل العراقيين فقد تغنى بالعراق والأخوة العربية الكردية طويلا، ولم يكن في أي يوم من أيام حياته وإبداعه منفصلا عن الثقافة العراقية".
مشيرا الى أنه "ترجم الكثير من شعر شيركو الى العربية".
الشاعر يموت.. اللغة تتصدع
فيما قال الشاعر طالب عبد العزيز: "قد لا أعرف الكثير عن الشاعر الكبير شيركو بيكه سه العراقي، الكردي المتوفى قبل يومين، لكني أفهم جيدا بأن موت شاعر يعني تصدع لغة، وزحزحة وطن عن خريطة الآمال، أما إذا كان الشاعر صنيعة بطولات، حاضنة أمنيات، سليل منافي وضحية لحماقات السلطات مثل شيركو فان القضية ستكون أبلغ من فقد شاعر، أكثر من لغة تتصدع، أبعد من وطن يتزحزح خارج خريطة الآمال".
وأوضح: " برحيل شيركو يكون الوطن المختلف قوميات ولغات، المؤتلف مشاعر وأحاسيس قد فقد من بهائه الكثير، ولا نبالغ إذ نقول بأن ثقافة الوطن التي تصدعت كثيرا في العقود الأخيرة ستتصدع أكثر بفقده، فالشاعر يشكل حلقة الوصل الأكبر بين أهم ثقافتين وطنيتين في العراق (العربية والكردية) ولعل حياته في بغداد وكتابته بالعربية والتراجم من شعره للعربية وحضوره بالغ الأهمية في الشعرية العراقية كما أن تأريخه كمناضل وطني، صاحب قضية قومية، مقارع للأنظمة الدكتاتورية، متطلع لرؤية وطنه مستقلا، مستقرا، مزدهرا وغيرها الكثير شكلت شخصية الشاعر ومنحتها صفات قد لا تتوافر عليها شخصية ثقافية كردية أخرى".
وأضاف: "في ملتقى كلاويز الثقافي قبل عامين قرأ شيركو بيكه سه قصائد قصيرة، كان الجو باردا، صقيعيا في السليمانية، ولأنه يخشى على صحته أن تعتل كثيرا فقد لبس الكثير من الثياب حتى كأنه أنحدر من الجبل تواً، كان جمهور القاعة، من الذين اعتادوا الحضور كل عام أكثرنا خشية لأنهم يعرفون أن الشاعر سيقرأ الكثير من شعره، لكن صحته التي كانت تعتل تباعا منعته من قراءة قصائد طويلة فاكتفى بنصوص قصيرة، كانت الحدائق والمقاعد المتجاورة والحياة جوار الينابيع واحدة من سمات شعر شيركو:
معاً كان الوقت مساءً..
وفي إحدى الحدائقِ
وعلى مقاعدَ متجاورة
جلس ضرير وأصمّ وأبكم
كان الضرير يرى بعين الأصمّ
والأصم يسمع بأذن الأبكمِ
والأبكمُ يفهم من حركات
شفاه الاثنين
وكان الثلاثة
وفي وقتٍ واحدٍ
يشمون رائحة الزهور معاً".
هناك فرق بين ان تكون شاعرا وأن تكتب شعرا
فيما قال رئيس اتحاد أدباء البصرة الشاعر كريم جخيور:"هناك فرق بين أن تكون شاعرا وأن تكتب شعرا، ففي الأولى أنت معني بمشروع شعري، أما في الثانية فأنت ناظم له تحركك مناسبة أو فاجعة أو لحظة عاطفية".
وأوضح: " شيركو بيكس شاعر اشتغل على مشروعه الشعري والمتتبع للمنجز الشعري له يجد ذلك دون عناء، وما يميز الراحل أيضا أنه لم يجعل من قصيدته دابة يسوقها في مسالك السلطان بل راح يحلق بها بعيدا بعيدا عن ضغائن اليابسة، حاملا في قلبه تراتيل الجمال وفي يده كأسا لم تنطفئ نارها تاركا للكرسي جوع الخشب".
وأضاف:"وبعد السقوط المضحك للتمثال الأسود في ساحة الفردوس أعاد البصريون ترتيب مرابدهم فكان مربدهم الثامن يحمل اسم الشاعر شيركو بيكس في محاولة لكسر ما هو سائد فقد اعتدنا ان نحتفي دائما بموتانا وفي افتتاح المهرجان كانت أطياف الثقافة العراقية حاضرة وشاهدة وكان لكلمته التي قرأها أحد الأدباء الكرد دليل على أن شيركو بيكس يمثل علامة فارقة في الشعرية العراقية والعالمية".
شاعر الحرية والمقاومة يلملم أوراقه
شاكر فريد حسن
ودّع الدنيا قبل أيام قليلة الشاعر الكردي الكبير، الذي غيبه الموت في احد مستشفيات السويد اثر مرض عضال لم يمهله طويلاً.
يعتبر شيركو بيكه إحدى القامات الشعرية في الادب الانساني المعاصر، ومن رواد الشعر الكردي، ومن آباء قصيدة الحداثة النثرية، وأحد الأعلام المضيئة الساطعة في الأدب العراقي والثقافة الكردية. ينتمي شيركو الى شعراء الحرية والكفاح والمقاومة والثورة على القهر والظلم والطغيان والديكتاتوريات.
بدأ حياته الشعرية رومانسياً شغوفاً بالطبيعة والجبال، لكنه سرعان ما تحول الى شاعر كفاحي مقاتل بعد انخراطه في صفوف المقاومة والحركة الشعبية الكردية المناضلة لأجل الحرية والاستقلال والتحرر الوطني. وكان يرى في السياسة موقفاً من الوجود والحياة والإبداع .شيركو بيكيه من مواليد كردستان العراق عام 1940، تفتحت شاعريته وموهبته في النظم في جيل مبكر، فنمى ملكته الشعرية بالقراءة والتسلح بالثقافة. قال الشعر وهتف به عالياً فأصغت جبال كردستان لنشيده وردد الشعب قصيده. ملأ سنوات عمره بعطاء أدبي خصب ووهج شعري متألق، وأضاء بشعره وفكره دروب عشاق الوجدان الصافي وشداة الإحساس الإنساني الصادق .برع في كتابة قصيدة النثر، وتنوع نتاجه الأدبي بين النصوص القصيرة والطويلة والقصة الشعرية والمسرحية الشعرية.
صدرت له أول مجموعة شعرية عام 1948 ثم توالت اعماله الشعرية بالصدور حيث بلغ عددها أكثر من 18 عملاً شعرياً آخرها ديوان شعري حمل اسم (استعجل .. ها قد وصل الموت) وكأنه أحس بأن الموت يقترب ويدنو منه. وترجمت أشعاره الى لغات عديدة. وفي العام 1970 اسس حركة (روكانة ) الشعرية ، ضمت عدداً واسعاً من الكتاب والمبدعين الكرد .
التحق شيركو بحركة المقاومة الكردية وبسبب نشاطه السياسي عانى الملاحقات السلطوية، وفي العام 1975 ابعد الى محافظة الأنبار غربي العراق، وفرضت عليه الاقامة الجبرية لمدة 3 سنوات، وفي أواخر السبعينات أعادته السلطات الى السليمانية. وفي منتصف 1984 انضم الى رجالات المقاومة الجديدة وعمل في إعلام المقاومة وإتحاد أدباء كردستان في الجبل . بعد ذلك قضى شيركو سنوات عديدة في المهجر بالسويد بعيداً عن وطنه، لكنه عاد في العام 1991 بعد نشوب الانتفاضة الجماهيرية الكردستانية، ورشح نفسه على رأس قائمة الخضر كمستقل وأصبح عضواً في أول برلمان كردي، ومن خلال البرلمان أصبح أول وزير للثقافة في اقليم كردستان، لكنه قدم استقالته من منصبه بعد عام ونيف احتجاجاً على الخروقات الديمقراطية. ثم عاد للسويد وبقي فيها حتى وافته المنية.
ان الطابع المميز لأشعار شيركو هو التصاقها بالمكان وحركة الواقع السياسي واليومي وذاكرة الكرد الثقافية والسياسية والشعبية الجماعية، واقترابها من نبض الشارع والذائقة الجمالية الشعبية، وتعبيرها عن وجدان الناس وهمومهم وواقعهم المرير وآمالهم العريضة واحلامهم الخضراء وتطلعاتهم نحو المستقبل وأفق الحرية والانعتاق والعدالة ويوم الخلاص .
انها أشعار تتسم بالطابع السياسي والوجداني والانساني، ويطغى على كلماتها وتعابيرها مسحة الحزن والشجن والأسى وذلك انعكاساً للمأساة والتراجيديا الكردية المستمرة والمتواصلة.
وهي تتميز بالبساطة والوضوح والليونة، وتخلو من التكلف والصنعة اللفظية، ويوظف فيها السياسة والتاريخ والحكايات والأساطير والملاحم البطولية.
ويمكن القول ان قصيدة شيركو ترسم ملامح الوطن المعذب، وتجسد الواقع الكردي وما يتعرض له الكرد في العراق من عسف وظلم واضطهاد وتمكيل وقتل وارهاب وموت جماعي.ومن جميل شعر شيركو هذه الأبيات الرقيقة المميزة من قصيدة "حلبجة تذهب الى بغداد" ، التي تؤكد الوحدة العضوية بين الأرض والوطن والانسان، التي كان يحلم بها، ولا بد أن تتحقق يوماً .. فيقول :
ستذهب حلبجة الى بغداد قريباً
عن طريق غزلان سهول(شيراونة)حاملة معها سلة من الغيوم البيضاء
وخمسة الاف فراشة
تنهض دجلة بوجل ...
تنهض بكامل هيبتها .. وتحتضنها
ثم تضع طاقية الجواهري على رأسها
بعدها..
تقترب يمامتان من النجف
يغمر حنجرتيهما الهديل
ليحطا على كتفيها .
شيركو بيكه شاعر كردي انساني، مرهف الحس، جميل الايقاع ، ناصع الأسلوب، رقيق المعنى، يموج بالحياة، حمل نفساً وحساً شعبياً حقيقياً ووجدان تجربة إنسانية ونضالية صادقة، كرس كل مواهبه للأدب المنحاز ثقافة للحرية وقضايا الإنسان، الذي يوقظ في حس ومشاعر الناس كل أحاسيس الكفاح والنضال والالتزام، وتبدو في مجمل كتاباته القضية الكردية معجونة بمداد قلمه السيال الذي غذاه وسقاه من دمه وروحه، فكان هذا القلم كالبندقية وكريشة الرسم، فكلها أدوات ووسائل للتعبير عن المعاناة والوجع والألم، والواقع القهري المأساوي للشعب المضطهد والدفاع عن قضيته الكبرى.
وقد جاء شعره في شكله ومضمونه تعبيراً حياً واميناً عن قضايا شعبه ونضاله التحرري وتطلعه الى نيل الحقوق وتحقيق أهدافه الوطنية بالتحرر والاستقلال .
فيا شاعر الحرية والكفاح طوبى لك، والمجد لك، وسلاماً لروحك من ثرى وأرض فلسطين التي تقاوم القهر والاحتلال وتنتظر انبلاج النهار. وستظل خالداً بأشعارك ونضالاتك وسيرتك المشرفة في ذاكرة الكرد والعراقيين والعرب أجمع.
شيركو بيكس.. أسد الجبال
كاظم مزهر
أخيرا، كما هو شأن الطيور المهاجرة التي لا تعود يغادرنا شيركو بيكس في ارض مولعة بأجساد الشعراء. أرض الغربة التي أصبحت وطنا لمبدعي العراق.
مضى شيركو بعيدا عن موطنه الذي عشقه ليلتحق بركب الكبار الذين غادرونا كالجواهري والبياتي ونازك وبلند ومصطفى جمال الدين.. وتطول القائمة التي تعبق بهذه الأسماء الجواهر. شيركو بيكس من أهم الشعراء الكرد في العصر الحديث، وأحد رواد القصيدة الكردية وحامل لواء التجديد.تمثل ذلك بغزارة شعره ومفرداته الساحرة حيث تكتنز قصائده بمفردات الطبيعة التي تمارس دورا مهما في جمالية الشعر.
شيركوبيكس شاعر عراقي كردي.. أمضى حياته في مقارعة الظلم والديكتاتورية. وتعرض للتهجير مع أسرته. فاتخذ من المقاومة المسلحة تعبيرا واقعيا عن رفض الاستبداد والظلم فكان شعره حافلا برفض الطغيان محتفيا بالحياة والحرية وحب الإنسان.. لقد خسر العراق والكرد خاصة شاعرا وإنسانا كبيرا. تمرد شيركو على روتين الحياة وما فيها. وأحب العيش منتفضا على السياق الذي يرى فيه معتقلا للحرية وفناءً للذات التي يجب ان تمارس كينونتها في حراك المجتمع وتشكيل مفاصله. مضى بيكس وترك كرسيا للسائحين على ضفاف الشعر وقصائد باللغة الكردية والعربية, ومنجزا فكريا غزيرا. تغنى فيه للوطن والإنسان. للجبل والسهل، للوادي والمروج الخضراء الفسيحة والتي كانت هي المكان والحاضنة لمخيلة الشاعر.كتب شيركو للمرأة واعتبرها نواة للحياة في مسيرته الأدبية فهو لا يستطيع التغاضي عنها ولا يرى الحياة ذات فائدة دونها، يقول: «لا يمكنني الكتابة دون حب امرأة وحضورها المستمر في خيالي وتخيلاتي المضيئة أو عطر جسدها أو صوتها العذب».إذاً، ايها الشاعر المغادر جسدا والمقيم فنا وإبداعا، لقد تركت من الغناء ما يجعلنا نحتفي بك دائما. فالكلمات لا يأكلها التراب...