ادب وفن

ملاك «طفولة آدم» المثقل بإنسانيته / عائشة المؤدب *

"طفولة آدم" مجموعة شعريّة للشّاعر العراقيّ خالد خشّان وهي كتاب خفيف وزنا بصفحاته الّتي لا تتجاوز الثلاثين، لكنّه يحمل من الأوزار الإنسانيّة ما يجعله مثقلا بها، قد تشي ببعض ذلك صورة الغلاف المتمثّلة في ساقي طفل يلفّهما لباس فضفاض إبتلع الوحلُ لونَه وفاض على قدمين صغيرتين حافيتين.
لونهما بلون الأرض الإسفلتية المرشّقة بالحصى والأسى، صورة تتناسب مع عنوان الكتاب بما يحمل من دلالات متنوّعة لعلّ أوّلها البعد التراثيّ لشخصيّة آدم الذي خُلق كهلا لا طفولة له، هذه المرحلة العمريّة غير مطروحة في الروايات الدينيّة ولا التراثيّة ممّا يجعلها فترة مفقودة من الزّمن متعلّقة بمكان سرمديّ ولعلّها بذلك أشبه بالحلم المستحيل.
التّصدير الّذي انتقاه الشاعر عتبة أخرى يرتقي بها القارئ إلى أجواء الكتاب وعوالمه تساعده في فتح مغاليقه، نجد مقطعا لـ "جان دمو": " كم بعيدة طرق الطفولة المعبدة
كم قريبة طرق الموت..."
هاهي كلمة "الموت" تنبض في آخر الجملة كعلامة فارقة تهيّئ لفقد فادح، يتعمّق الانطباع العام الذي بنيناه حين نقرأ المقطع الذي جعله الشّاعر "مدخلا" معرّفا هويّته العراقيّة المتأصّلة ومحدّدا مأساته:
انا ابن أور
كلّ ليلة أتسلّق قبري
"..." أحمل دم آدم راية ممزّقة بالعويل"
أيّ وزر يحمّل الشاعر نفسه وهو يحمل دم آدم راية؟ وأيّة مأساة تقضّ اطمئنانه فلا يهدأ؟ وأيّة علاقة لكلّ هذا مع الطفولة؟
كلّ هذه الخواطر تهيّئ للمضيّ في أعماق الدّيوان وسبر أغواره وسنركّز الاهتمام خاصّة على النّصّ الطّاغي على الكتاب والذي منحه عنوانه "طفولة آدم"
منذ الأسطر الأولى من النّص ينكشف لنا العنصر الجوهريّ الّذي يوحّد كلّ الأفكار المطروحة آنفا إذ يقول الشّاعر:
"من ثقب رصاصة
في القلب
تركته الحرب
..."
هي الحرب إذن !
هي الحرب الّتي تنسف الطّفولة وتغتال البراءة هكذا يصفها الشّاعر وهو يتحسّر على طفولته:
"طفولتي كانت بحجم القمر
لكنّ الحرب صيّرتها قنبلة يدويّة"..
هكذا تشوّه الحرب أجمل ما في البشر وتعبث ببراءة الطّفولة وفطرتها الخيّرة المسالمة وتحوّلها إلى احتمال كامن للأذى والخراب غير أنّ القنبلة اليدويّة حين تنفجر لا تخلّف دمارا في ما حولها فحسب بل هي أيضا تتلاشى فيكون معنى الخراب أشدّ وأعمق. ومن البديهيّ أنّ خراب الطّفولة يؤدّي إلى استفحال نقيضها، فالحرب لا تفلت المشارك فيها إلا ميتا أو عاجزا بينما تنسكب السنين تباعا ويضيع العمر وتُفرغ الحياة من معناها حين تذوي القوّة والقدرة على التحمّل
"هناك في البصرة
سكبنا أعمارنا دمعة دمعة
على سرف الدبابات أو البارات
ثم رجعنا كحقيبة مهملة فارغة"..
كأنّما أسلمته الحرب للشّيخوخة فعاد إلى الوطن منهكا محمّلا بهاجس الموت لا يفارقه
"سأنام بعين واحدة
خوفا من الشّيخوخة تبلع جثّتي
وتلتهمني التّوابيت"..
فقسوة التّعرّض للحرب أنّها تجعل الموت هو الاحتمال الأقرب كلّ يوم وأنّ الناجي من الغارات اليوم قد لا يكون كذلك غدا
" أعرف
أنّ طائرات "الأباتشي"
لا
تخطئ
لكنها لا تميّز
لذلك
أنا أبحث عن اسمي
في لافتات الموتى
كلّ يوم "..
بذلك يتضخّم هاجس الموت في كلّ لحظة ويتحوّل إلى حالة حياتيّة ملازمة وهذه الفكرة تلبس الحياة بالموت وبتلاقي النقيضين ينشطر الكائن البشريّ من الدّاخل في صراع رهيب بين حالتين متناقضتين لا يتوقّف عن الانتقال بينهما: التّسليم للموت المحقّق أو التمسّك بالحياة فلا الموت يأتي ولا الحياة تستقيم ونظرا لحالة الرّعب المستمرّ وتضادّ الأصوات الدّاخليّة في النّفس بين الأمل واليأس يقع الاغتراب عن الذّات ويحتدم الصّراع الدّاخليّ فلا هدوء ولا اطمئنان، وتتعدّد الصور الّتي استعان بها الشّاعر للتّعبير عن هذا الانشطار وعن معايشته للشّعور بانعدام الاندماج بين الرّوح باعتبارها رفيقته الى الموت والجسد باعتباره أداة للحياة
"أنهض من موتي
أسحب جثّتي"..
أفرش روحي وأتكوّر فوقها "..." وأحدّق بالعابرين عسى أن أكون أحدهم"..
"أنا المحتشد أمام جسدي "..
وتتعمّق هذه الغربة أكثر في بعدها الزّمانيّ وهو يرى الطّفولة قد أفَلَتْ وفي بعدها المكانيّ وهو يرى وطنه بعيدا تحول أهوال الحرب بينه وبين الوصول إليه حتّى أنّ الشّاعر قد دمج هاذين البعدين فصار الوطن والطّفولة معنى واحدا يحنّ إليه الشّاعر ويفتقده وتتوّحد صورة الطّفولة باعتبارها فترة من الزّمن بعيدة مع صورة الوطن باعتباره رقعة من الأرض بعيدة أيضا بل هي أبعد من ذلك إذ يعبّر عنها باتجاهها "جنوبا" فتتكوّن بؤرة الوجع الّذي يعاني منه الشّاعر فيقول:
"فنهطل
إلى حنين سابق
جنوبا
جنوبا
نحو الطفولة "..
هي حالة من الاغتراب المضاعف روحا وجسدا إذ يتكرّر تعبير الشّاعر عن الشّوق لوطنه والحنين إلى الطّفولة وفي كلّ مرّة تكون الطّفولة حاضرة
"ألا يأتي الجنوب في طرود البريد؟
يزيح المحطّات الّتي سكنت وجوهنا
ويوزّع دفئاً
وحلوى الطفولة
يا طيور النوارس تقصّي الجنوب
تسلّقي حروف الجنوب
النازفة نحو الجنوب"..
وكأنه وهو يكرّر لفظة "الجنوب" بهذه الكثافة يستحضر الوطن الغائب فعليّا ليجعله حاضرا في تفاصيل تفكيره وفي ثنايا روحه، هو يلهج بذكره لعلّه يقرّبه ولو افتراضيّا فيستعيد الطّمأنينة الكامنة في الوطن والسعادة الكامنة في الطّفولة
أمام هذا الموقف المتأزّم يقف الشّاعر عاجزا لا يبلغ حدّ اليأس، واثقا لا يقدر أن يحقّق رغبته ومن هنا تتضخّم مأساة الشاعر نظرا لعدم قدرته على الاستسلام لهذا الواقع برغم تعوّده عليه
"وجهي ألف الحروب"..
فهو ينساق وراء شغفه بالطّفولة لكنّه يتعثّر بالحرب وهي ترشق شظاياها في كلّ شيء، ماديّا كان أو روحيّا حتّى الأغنيات لم تسلم من التّشويه
"أردت أن أغنّيك
بشغف الأطفال
فتعثّرت بالشّظايا"..
وأمام هذا الحنين القاسي إلى الطّفولة المستحيلة وإلى الوطن البعيد لا يجد الشّاعر خلاصا إلاّ في الهرب من الواقع الموحش والبحث عن حالة من النّسيان ولو مؤقتّة فنجده يعبّر عن لجوئه إلى السّكر كحالة تفصله عن الشّعور بفداحة ما يعيشه من فقد وهو الحلّ الأسهل والأقرب في سبيل الحصول على لحظات من الأمن ولو وهما، غير أنّه يقلب المفاهيم ويندمج في حالة النّكران للواقع فيعتبر أن أوقات السّكر أو الانفصال عن الحقيقة هي حالة الصّحو الحقيقيّة وما هي إلا حيلة كي يخفّف عن نفسه الشّعور بالألم بإنكاره وكأنّ ما يعيشه من ويلات الحرب وغربة واغتراب روحيّ إنّما هو مجرّد حلم أو حالة طارئة بينما يعتبر حالة الانفصال عن كلّ ذلك هي الوعي الحقيقيّ
" سأسكر حتى أعثر على صحوي"..
لكنّه سرعان ما يستعيد وعيه بالألم فينكر الواقع مرّة أخرى ويمعن في رفضه
"من أيقظني من صحوي
وصبّ فوق رأسي نهارات لا تنتهي"..
ولعلّ ما يعمّق هذا التوغّل الفادح في المأساويّة ويجعل حالة الهرب الّتي يلجأ إليها تتجاوز الرّفض لما يحدث حوله من دمار هو ما يمكن أن نتبيّنه من الشعور المبطّن بالذّنب، ذنب النّجاة من الحرب، فكأنّما الشّاعر يلوم نفسه على البقاء حين يقول
"لم يبق منهم إلاّ أنا
لم يبق منّي
إلاّ الشوق"..
ولعلّه يشعر بالذّنب أيضا لكونه عنصرا في حالة الحرب نفسها باعتباره جنديّا ولو كان مرغما على ذلك وها هو يتوجّه إلى الله وقد تعب من حالة التناقض بين باطنه المسالم الصافي وبين ما يعيشه ويراه من خراب راجيا أن يتخلّص من قلبه المتعب:
"هذا القلب البكر الطفل
"..."
أبدله بقلب جنديّ مات صبرا
لا أريده قاسيا وسافلا كرصاصة
يا ربّ أريده سعيدا فقط"..
ولعلّنا نتوجّه إلى أبعد من ذلك فنعتبر أن حالة التّوتر والقلق الّتي يعبّر عنها الشّاعر ما هي إلاّ حالة من الرّفض لإنسانيّته وهو ما عبّر عنه منذ البداية بـ"حمل دم آدم راية" فهو يحمل خطيئة البشر، الخطيئة الّتي أخرجت البشر من الجنّة/ الطفولة، هو بحمله دم آدم في عروقه يكون مسؤولا عمّا يحدث، هو إذن روح تتلظّى بين تحمّل ما اقترفته البشريّة من قبح باعتباره مشاركا في ذلك الجرم وبين الحنين لحالة السّلام والطّمأنينة الّتي يراها في براءة الطفولة، هو يحمل إثم البشريّة كلّها فيمتثّل نفسه في صورة مسيح لا يقاوم قدره بحمل أوزار البشريّة
"لقد اطمأنّت أطرافي لمساميرها
واطمأنّ قلبي أنكّ تنتظرين بزوغ آدم المعلّق في صليبه"..
يبزغ هذا النبيّ متشرّدا يختاره مريدون هامشيّون حيث يقول:"يؤازرني الصعاليك الّذين لم يفلحوا يوما في جنّة الله
يصطفونني كي نبني مملكة للخراب "..
هو الشقيّ بتحمّل إنسانيّته نجده يتبرّأ منها فيخرج من قالبه البشريّ ويوبّخ الإنسان قائلا:
"واسع جدّا خرابك
أنظر ماذا فعلت بنفسك
أيّها الإنسان"..
أو يتنزّه عن انتمائه لعموم الناس فيخاطبهم كملاك محلّق يعيّن اختلافه عن السائد وبراءته ممّا يراه من خراب:
"هذا الفردوس لي
أنا المبارك
غصن الأرض الأخضر
منطفئا ساعة جمعكم
مضيئا في وحدتي
أرتدي قامتي المعقوفة من الأعلى
كعمود نور".
طفولة آدم كتاب ضاجّ بحالات القلق الوجوديّ يراوح الشّاعر فيه مكانه بين الحنين والغربة وبين الشعور بالذنب ونكران الواقع وبين حالة اليأس والتسليم والتماع الروح الصافية النقيّة، والشاعر مع ذلك لم يتناول تيمة الحرب من زاوية النظر النمطيّة المستهلكة المتمثّلة في نقل المشاهد المأساوية للحروب وفي الحقد على العدوّ أو الفخر بالأبطال أو التباكي على المصير المعتم، إنّما جعلنا نرافقه في تأثره العميق بمعايشته لها من الداخل وساعدنا على الوقوف على مخلّفاتها البعيدة المدى والخفيّة في النفس، هو يشاركنا هواجسه وقد وجد نفسه وجها لوجه مع قبح لا يحتمل، نسج هذه المعاناة في شكل أسطر قصيرة جمعها في مقاطع وبثّها على الصفحات متناثرة متشظية كأنّما هيّ تصوّر بقايا الخراب الّتي خلفتها الحرب، حالة من اللّهاث المتقطّع، والأشلاء المترامية قد وردت أفعالها كلّها مسندة إلى ضمير المتكلّم المفرد غالبا والجمع في بعض المواضع فالشّاعر يتحدّث عن مواقف عاشها ويصف الحرب وصف شاهد العيان بتفاصيل لا يعرفها إلا من واكبها وكان عنصرا متحرّكا فيها، إنه يوثق لفترة من سيرته الذاتيّة الّتي عايش خلالها العنف البشريّ عن قرب وهي بذلك تجربة إنسانيّة عميقة صادقة تدلّ على الآثار النفسيّة في أعماق الشاعر وبالتالي الإنسان عامة، ولعلها تكون مادة ثريّة تغري بدراسة أدب مخصوص يتعلّق بالتجارب التي عايشها الكتّاب والشعراء في الحروب فتكون فرعا مميزا من حيث موضوعه على غرار أدب السجون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة من تونس