ادب وفن

الرؤية القاتلة في عيون مالك القريشي / عيسى مسلم جاسم

تميز العمل الابداعي، سيما الادبي باللا مباشرة، وهذه سمة تميز الكلام العادي، عن النتاج الفني، الذي يجيده الآخرون الذين منحتهم السماء الموهبة، فصاروا صناعاً خلاقين يُشار اليهم بالبنان، ولهم مكانتهم في ابرع عنوان، ولهم الحظوة في كل آوان. فكان العرب لديهم شاعر العشيرة بمثابة نبيهم، فهو وزير اعلامهم، وهو سلاحهم، وموضوع فخرهم، وكذلك مثابتهم وعلمهم.
فالابداع الفني لا يوثق من خلال صورة "فوتوغرافية" بل من خلال لوحة فنية تنبض بالحياة، لذا نرى سيادة الفتنازيا والرمزية والابتعاد عن المباشرة والسطحية، لذا تراني حينما أناقش أستاذي المعروف ابن مدينتي حميد حسن جعفر: لمن تكتب يا سيدي، فاننا لا نعي ما نقول؟ عندها يقول: "أنا اكتب من خلف زجاج مضبب".
لكن لنعد الى الاقدمين وفي هذا الضرب، فهذا ابن رشيق القيرواني الذي يقول: "المجاز في كثير من الكلام، أبلغ من الحقيقة، واحسن موقعاً في القلوب والاسماع، لاجتماع وجوه التأويل"، ويشاطره الرأي عبدالقاهر الجرجاني فيقول: "إن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء الى معنى هو تاليه، ورديفه في الوجود، فيوميء به اليه، ويجعله دليلاً عليه".
أضف الى ذلك، فهنالك الترابط الجدلي الرابط بين رئة المتلقي ونتاج صاحب الأثر من جانب والاوضاع الاجتماعية والنظم السياسية، لذا نلمس شيوع ثقافة الرمز، من يتحدث ويكتب بلغة الحيوانات، وآخر بلغة الاطفال، عسى أن يغفل مقص الرقيب وعينه عنه، وينسحب الأمر الى الامور الوجدانية التي هي اصلاً لا تهز عروش الطغاة، لكن الاخيرين لا يهدأ لهم بال الا في القمع والحرمان، ويستمرؤون ويلات شعوبهم ويقلقهم سرورهم، وسيادة الحب بين أوصالهم، فالحبيب حتى وان تغنى بحبيبته، يلجأ الى ضمير المذكر المخاطب بدلاً من الانثى حبيبته، وإن جهر به يكون قد اشتد عليه غضب السماء كما يدعون!
فهذا "إبن عبد ربه وفي ديوانه: 132" يخاطب المحبوبة بضمير المذكر:
أتقتلني ظلماً وتجحدني قتلي... وقد قام من عينيك لي شاهد عدل
أغار على قلبي فلما أتيته... أطالبه فيه، أغار على عقلي
عذراً وصبراً عليّ عزيزي القارئ، يقيناً لست راغباً ولا أروم كتابة سطور عن "الرمزية"، فلا ريب تنتظر مني أن أسلط حُزماً ضوئية على قصيدة شعبية.
يقيناً إنني على عهدي لاساتذتي وزملائي الذين سبقوني وتصلب عودهم، وأورقت أشجار ابداعاتهم؛ فلم أنس وصاياهم بالحديث عن النص فقط، وترك خالقه لهمه كي يتمخض عنها ابداع آخر. لكن مهلاً... فالشاعر من المواظبين على ولوج هذه الصفحة الجماهيرية، وأعتقد أني لم يسبق لي شرف الكتابة عنه. نعم فاللعاب يسيل والقلم يميل الى الكتابة عن كل النصوص، وهذه سمة الصفحة الحافلة بما لذ وطاب، لكنني وعلى الأغلب، يشدني النص، ويكتبني لا أنا من أكتبه، وهذه القصيدة من هذا الصنف.
لا ريب / عزيزي المتلقي / نفد صبرك وأنت على حق، الآن، قد أزفت ساعة الضوء بعد هزيمة الظلامية.
بيت القصيد قصيدة موسومة "من تصد تكتل للشاعر غزير الانتاج "مالك القريشي" المنشورة في صحيفتنا الأثيرة / طريق الشعب وعلى الصفحة العاشرة / أدب شعبي، وبعددها 68 لسنتها 81 وليوم الخميس المصادف 12 تشرين الثاني 2015.
الغريب ربما ازدياد ولعي بالعناوين، ولربما بالنسبة لي تزيح الستار عن المكنونات، لذا تراني أتوقف كثيراً عندها واتمعن عميقاً في أغوارها.
"من تصد تكتل" الفصيل المتقدم العنوان لا يخلو من الضباب، بل ينزّ اكثر من احتمال وأبعد من تأويل:
مفردة "تصد" فيها احتمالات؛ الاول الهجر والبعاد والحرمان. والثاني، حينما تنظر وتتأمل وترى، وعلى الاغلب قصد الشاعر الاحتمال الثاني. الامر الآخر مفردة "تكتل" المقصود فيها "القتل والارهاب والعدوان "فالشاعر استخدم المجازية والرمزية معاً، وهذا وافر في أدبنا الشعبي، لكن "مثلبته" أنه لا يتجاوز المحلية الضيقة، وهذه مشكلة كبيرة تعيق انتشار الشاعرية والحقيقة لمن يعي المعاني يجدها صورة جميلة أدبية هي تترجم عمق وجسامة الجرح الذي يتركه "مربط الفرس" على الانسان المبدع فأثمر هذا النص الماسي.
يقيناً "من تصد تكتل" هي صورة "خرافية" عالية من قوة الجاذبية ودرجة الجمالية، القاصي والداني ومن العنوان يتسرب اليه الحب والهيام ولهفة المحبوب والغرام، والمفردة الأخيرة وردت في الذكر الحكيم: "والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما" الفرقان: 65.
وتفسير مفردة "الغرام": هو أشد العذاب، وهو اللازم، والمُلح، ومن الغريم لملازمته والحاحه حسب مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي"، وكما قالت العرب على لسان الشاعر "بشر ابن ابي حازم" فيقول:
ويومُ السنار ويومُ الجِفار... كانا عذاباً وكانا غراماً
فهاتان شهادتان تعززان درجة الشاعر التي صورها أيما تصوير. نعم عيونها سهام دافقة، فما هو رد فعل الشاعر، اكيد يريد أن يضيف شواهد خشية اللوم، ويريد ان يسجل مسوغات اصابته الموجعة وان يدخل في عد المزايا، بل البلايا!
انت مثل وردة الجوري أحمر لون ما تذبل
هو البيت او بالاحرى السطر الاول، يصور لنا الشاعر أن هذا الورد لا يذبل، هو كذلك دائم الخضرة يملأ الأفياء عطراً فواحاً، ويسر الناظر جمالاً وبهاءً، ومع تعدد الوان الورد الجوري، لكن وردته "حمراء".
"ففي التظاهرات، حيث كانت هذه الاناشيد، عندما تنطلق من الحناجر تؤجج نيران الشجاعة، وتثير روح الأقتحام في نفوس المتظاهرين".
راية الشعب ارفعوها... تتلظى باحمرار
ارفعوها واتبعوها... للعلى للانتصار
"من كراس أناشيد ثورية، منشورات/ دار الفارابي
"فاللون الاحمر من الألوان الحارة، والزاهية والصارخة التي تعبر عن الفرح والسرور والضياء والسعادة والغنى، كذلك لو حذفنا اللون الاحمر من الطيف الشمسي لا نستطيع تعويضه الا بمزج جميع الالوان معاً الألوان وتأثيرها في النفس، وعلاقتها بالفن/ محمود شكر محمود الجبوري.
القصيدة تألفت من اثنين وعشرين سطراً، ومتعددة التفعيلات والنفس الطويل، فالصورة سرمدية، مهما رسم الشاعر من لوحة جميلة يشعر بتأنيب الضمير، لأنه لم يفِها حقها لذا طالت الصور وتعددت التفعيلات، ولا زالت في القلب غصة وفي النفس لوعة. فكأنه في لوحته يشاطر الفنان الايطالي دافنشي حينما أبدع في نحت موديله، لا ريب قارب الكمال، حتى خاطبه "تكلم"! ثم حطمه بفأسه، شعوراً منه إنه لا زال يمتلك خزيناً من الفن الاسطوري.
القصيدة خريجة اكاديمية "الرومانسية" ونتيجتها الأمتياز، ويبدو أن القصيدة ذاتها ووصلت الدراسات العليا، وولجت المدارس الواقعية النقدية، فالاشتراكية:

وحرام على الينظرك نظرة الحساد
لأن جسمك الناعم أبد ما يحمل
وحرام الما يهد الماي، ماي الشوگ دوم عليك
لأن تعطش مثل ما تعطش جذور العشب والسنبل

نعم هي كذلك قصيدة حداثوية، ابتعدت عن رنين القافية الذي يبعث الخدر لدى المتلقي على حساب المعاني، سيما والقصيدة الشعبية تنظم لأجل الألقاء على المنابر، فجمهورها عريض يشمل الأفقي والعمودي معاً. والجميل ايضاً خلو القصيدة من الهفوات الاملائية والنحوية وحتى الطباعية عموماً جاءت بلغة سليمة، فقلما نستمتع بقصيدة شعبية بلغة سليمة وكأنهم حسبوا أن "الفيتو" لا يمسهم ولديهم حصانة لغوية.
نلمس تكرار مفردة "حرام" لسبع مرات، وهذا الرقم لم يأت جزافاً فهو رقم مقدس وارد في الكتب السماوية ومشبع بالاعراف الاجتماعية بشكل واسع وهو رقم "رمزي ومجازي" يدل على الكثرة، وهنالك الكثير من النصوص مثلاً "لو استغفرت لهم سبعين مرة" سبع سماوات وسبع ارضين، عجائب الدنيا السبع، سبع صنايع...الخ.
فليس غريباً ان يتذمر الشاعر ويتألم، وهو وسط عالم طبقي استبدادي قمعي تزكم الأنوف عدوانيته واضطهاده لذا لا يهون عليه خنق صوت تغريد العنادل او هديل الحمام، وصعب عليه جداً تشويه لوحة زاهية أو إجهاض بسمة بريئة، وهذه الاجواء لا يرتضيها الا الوان العرق والدموع والدم، والافكار التكفيرية، وهي سمة الطغيان والشمولية.
إنهم يشربون الدماء
فالخمر حرام "شاعر من مدينتي علي نجم اللامي".
فتكرار مفردة "حرام" يؤشر على الاقدام الهمجية التي تحاصر وتهدد "الوردة الجورية الحمراء".
لذا يكبر حب الشاعر وينمو من خلال حرصه وشوقه ودفاعه عن "المحبوبة" المفردة، الانسانية من دم ولحم وتمادى هذا الحب وتمرد واتسع ليشمل العائلة والقرية والوطن، كالمتظاهر الذي يربط ويجمع المطالب الذاتية المطلبية بهموم الوطن وبالاصلاح والفساد سر هضم حقوقه. نعم هذا أصبح عريضاً يشمل الوطن والانسانية، بل اصبح فكراً ثاقباً وقضية لذا يقول الشاعر:

وحرام الما يعشگ دوم، دايم دوم
لأن انت العشگ والشوگ
ولأن انت جمال الكون.

قلب الشاعر كبير يتسع لحب الناس، وقلبه يهفو الى سعادتهم لكن الحبيب تحت الشغاف مشدود بالنياط.