ادب وفن

عتبةُ صورة / علي الحسيني

1
لكل صورة ذاكرة، طاقة، حياة، حكاية تروى تفاصيلها، للذين يشبهون تكوينها الوجداني، ويعون تعابيرها الايقونية.
الفوتوغراف يمنح من يسكن الصورة زمنا أبعد من زمنه، عمرا أطول من عمره، ووظيفة أبعد من التوثيق، كأنه يؤبد حميمية اللحظة وحيويتها، كما لو انه يؤسس لحياة أخرى، معنى ثانيا.
2
لا أتذكر يوما اني تعاملت مع هذه الصورة على أنها محض فوتوغراف. كانت نظرتي، طفلا، للكاميرا، محيّرة. لا أدري هل هي نظرة تساؤل أم استغراب أم تعجب، ما حقيقتها بالضبط؟. عيناي تقولان شيئا غامضا وواضحا في الآن نفسه، ابتسامتي الخفيفة، مراوغة أم صادقة؟
ماذا عن تلك اليد التي تمسك بذراعي اليمنى، خشية سقوطي أو لتثبيتي أمام الكاميرا، هل يمكن استبدالها بيد أخرى؟
هل أن الدمية التي تُلّوح بها اليد الأخرى، وهي تشبهني، حضورها محض صدفة؟!
كانت الصورة منذ أن رأيتها أول مرة، لغزا مستعصيا، نصا مشفرا، كتابا مغلقا. توقعت أن وراءها حكاية ثرية، مدهشة، تتسم تفاصيلها بالعجائبية، رغم واقعية زمنها وطرواته.
3
وجدت الصورة، مصادفة، حيث كانت في حقيبة يدوية، يحتفظ والدي مع الأوراق الرسمية وطابو "سند" البيت، ووثائق أخرى. وهي عادة، تعارف عليها أغلب العراقيين.
كان عمري، حينها، بين التاسعة والعاشرة، لم أكن أعلم أنها تخصني، قبل أن تخبرني أمي، بأن الطفل "اللغز" الذي تظهره هو أنا.
قالت: التقطنا لك الصورة، وأنت في سنتك الأولى، احتفاء بك، لأنك الولد البكر. اليد التي تمسك بك ذات الخاتم، هي يد جدتك "أم أبيك"، والأخرى التي تحمل الدمية هي يد أمك. على الرغم من سعادتي بالمناسبة التي حدثتني عنها، بيد أن الصورة "حينها"، خيبت ظني لأنها بالأبيض والأسود، ولأنها لا تشبه صورا لأطفال آخرين في عائلتي الذين يحتفظون بصور ملونة، براقة، وبملابس ناعمة مزركشة، عن طفولتهم.
أهملت الصورة، ورغبت بتمزيقها، لكن لا أدري ما الذي منعني عن ذلك. عادت الصورة إلى سريرها في الحقيبة الجلدية القديمة.
4
بعد مرور أشهر، ربما سنة، طلب والدي من أمي أن تحضر "طابو المنزل" من الحقيبة، وقتها كان عندنا ضيوف؛ عائلة خالي، أولاده وبناته، ووقعت الصورة بيد أختي الكبيرة، عندما كانت تعاين أمي وهي تحضر "الطابو" لوالدي، انتبهت أختي للصورة، فسارعت إلى أخذها إلى أبناء خالي، الذين احتفوا بها على طريقتهم الخاصة، بين ساخر من فمي، الذي قال انه يشبه فم البطة!، وبين ثان يعلق على سمرة بشرتي حينها.
غضبت لتعليقاتهم الساخرة، كأي طفل، فسارعت إلى أخذها منهم وقمت بتمزيقها قطعة، قطعة، لا ينفع معه إصلاحها، غير أني بعد دقائق، ندمت على فعلتي، واعتزلتهم وأخذت أبكي بكاء شديدا لتمزيقي إياها، مع عدم وجود نسخة أخرى، نمت تلك الليلة غاضبا ولم أحدث أحدا، لأني أحسست أني مزقت طفولة لا دليل على أني عشتها سوى ورقة مصقولة، كانت الصورة تخبرني ما لم يخبرني به أبي وأمي.
ليلتها، حاولت أمي تهدئتي لكنها فشلت. بعد تلك الليلة، نسيت الصورة، عشت بلا ذاكرة طفولة خلال عشر سنوات لاحقة أو أكثر.
5
في سن التاسعة عشر، هاجرت إلى إيران، وقد علمت أن لجدي من جهة والدي، زوجة فيه، ولي منها عمات خمس، وبعد نحو سنة، وفي زيارة لإحدى عماتي في مدينة الأهواز، دار الحديث، ولا أدري كيف، عن طفولتي، فقامت عمتي وأحضرت مجموعة صور كان والدي قد أرسلها إليها سرا العام 1985، بيد عربستانيين "اهوازيين" كانوا لاجئين في العراق، وكانت المفاجأة العظيمة، أن نسخة أخرى من صورتي تلك، من بين الصور التي أرسلها والدي إلى أخته غير الشقيقة. لم أحسب قط أني سألتقيها، وفي بلاد نخاصمها رغم أنها على كتف الشط.
6
كيف حدث ذلك، وبنفس السنة التي مزقتها فيها؟ كيف التقينا معا في مكانين مختلفين؟ هل أن الصور، تأخذ جزءا من روح صاحبها، لتجدد حضورها وتديم قوة رمزيتها؟.
هل أن هذا الجزء، هو من استدعاني ليلتم شمله مع الجزء الذي أعيش من خلاله، ويستأنفان الحياة معا، ويمنحاني مرة أخرى فرصة لاستيعاب العالم؟. كأني في رحلة خرافية، افتش فيها عن نفسي.
استعدت الصورة من عمتي، وكانت سعادة العثور عليها، كسعادة من تعود له ذاكرته بعد أن فقدها لسنوات.. شعرت حينها أني استطيع احتساب عمري من تلك الصورة، ثمة عتبة استطيع الانطلاق منها.