ادب وفن

الغرام في عصر البيروسترويكا / صالح الرزوق

قراءة متأنية لرواية برهان الخطيب الجديدة الصادرة في القاهرة هذا العام "غراميات بائع متجول" تكشف الكثير من الأسرار والغرائب. وحكايتها باختصار عن "أصلان" وهو رجل له تجربة، يجد نفسه في موسكو مشتبكا بعلاقة حب مع "هيلينا الروسية بائعة الخبز، المتزوجة من إنسان كحولي وأفاق.
وطبعا في خلفيات الرواية توجد لغة تتكلم عن حضارات تبتعد وتلتقي في حركة صعود وهبوط مستمر. وهذه أصلا هي لعبة العمل كله.
هيلينا وأصلان من حضارات مختلفة، شرق وغرب، لكن مع هذه الفوارق توجد متشابهات وهي أزمة الحضارتين والجرح الذي لحق بهما.
فالشرق المسيحي يبحث عن منفذ غربي للخلاص. والشرق المسلم يبحث عن التطهير من خلال المبدأ الاسلامي المعروف وهو الهجرة للبحث عن اليقين.
إن مجمل نص الرواية له أكثر من طبقة ومعنى، سواء في تركيبه أو سرده، حتى المزاح له حصة هنا، بل ويستخدم المؤلف أسماء مرت بنا في أعماله السابقة، ويستعيدها في معانيها المباشرة وغير المباشرة.
ولطالما أغرم برهان الخطيب باختيار شخصيات مركبة تنقسم على نفسها.
فلو وضعنا جانبا بداياته ولا سيما ثلاثيته المتألقة: ضباب في الظهيرة، وخطوات نحو الأفق البعيد، وشقة في شارع أبو نواس، وهي حكايات منفصلة ولكن متتالية، سنلاحظ أن بقية أعماله مركبة. بمعنى أن كل شخص يتناص مع غيره.
فهو يكرر الماضي ليؤكد على الماضي الذي قبله. بمعنى أن الحاضر هو البناء الذي يتطور من تداخل المراحل.
وهذه هي حالة روايته الهامة "أخبار آخر الهجرات" التي تتكلم عن اللحظة الراهنة من زاويتين:
ماضي الواقع الاغترابي في السويد وروسيا.
وماضي الخيال الأسطوري والمتخلف في مسقط رأسه، العراق.
ولذلك لا يبدو المنفى حالة من الاغتراب القسري ولكن نوستالجيا رمادية يمكن التعايش معها.
وعليه إن هذه الرواية ليست ملونة بالأسود والأبيض ولا تتقاسمها نوازع الشر "زوج هيلينا والمافيا"، والخير "هيلينا وأصلان" فقط وإنما تجد أنها تعكس الجانب اللامنطقي في واقع مزدوج ومريض وسريالي ومستعد للسقوط.
كذلك إن البطل في هذه الرواية مثل سابقاتها متحرك. لا يرتبط بالمكان. فهو كوزمو بوليتاني. يحمل عدته الثقافية وأخلاقه من الشرق إلى الغرب.
ولا سيما في تفسير العلاقة بين الحب والخطيئة، وبين الدين والسياسة.
بحيث تبدو السياسة أخطاء لا بد منها لأنها مبنية على الاستغلال وانتهاز الفرص أما الدين فهو عاطفة أو موضوع ذاتي.
ولذلك كان بطله يلعب عدة أدوار على مسرح الأحداث. فهو عاشق و مغامر. ولكن لا يعرف لماذا يقع في الحب ويتورط في الأخطار.
ولو شئت التشبيه تلاحظ أنه يحمل سمات عطيل. فهو معتد بنفسه مع ذلك لديه وصمة عاره بالولادة والتي يراها مصدرا للاعتزاز والتمايز. والإشارة هنا لهويته الشرقية التي كانت السبب في تمزقه بين عدة ولاءات: فعقله في جهة وعاطفته في جهة مقابلة. وهذا يفرض عليه أن ينمو في ظل الأحداث الكبرى ليكون شاهدا فقط.
بينما البطلة. ومع أنها مؤنث. فهي واضحة وليس لديها بذور الاختلاف مع الذات. وتبدو وكأنها حسمت معركتها مع الماضي. ولكن في نفس الوقت تتعامل مع المستقبل كجملة من الإمكانات.
وكما أرى إن هذه النوازع لا تخلو من فلسفة تدين بوجودها لما بعد البيروسترويكا.
فالبطل عالم ثالثي لكنه لا يعرف موقعه من العقل المدبر للأحداث. وهو أصلا يتحرك في ذاكرته بين العراق والشيشان. وفي الحياة الواقعية بين ستوكهولم وموسكو.
وهذه الحركة لا تنمو ولكنها تقفز.
بمعنى أن الشخص في ذاكرته يدور حوله ماضيه. وفي واقعه يدور حول نفسه. فقط ليجد نفسه ضمن دوائر مغلقة تزيد من إرباك فحوى إحساسه بالوجود. ولا تساعده على استيعاب هويته.
وربما لهذا السبب كان يهرب من نفسه ويجد الحلول المؤقتة في الغرام المحرم الذي يستغرق في تفاصيله. وكما لو أنه في غيبوبة.
حتى أننا لا نعرف شيئا عن تفاصيل حياته العائلية السابقة. إذ لا يعقل أنه نسخة مذكرة من السيدة العذراء، ولا يمكنه أن يكون نبيا معاصرا ويتوالد بواسطة الخوارق والمعجزات.
وبالمقابل تبدو البطلة جزءا من فلسفة موت الإيديولوجيا. فهي بلا عقيدة. ولا تؤمن إلا بنفسها.
وإن أثبتت في النهاية أنها مرتبطة بالأرض ولديها شغف وطني والتزامات عائلية يفرضها قانون المجتمع المتحول.
وفي هذا السياق استعمل برهان الخطيب بعض ألعاب الإثارة والتشويق كالكاراتيه والحكايات الفرعية وقصص المافيا.
إن هذه الرواية أساسا تعبر عن هذا التقابل في الصراع بين المكونات.. فمنذ العنوان يتجاور الحب وهو غريزة ترابط وتلاحم مع التجوال وهو دليل على التشرد والخروج من المكان.
ولو قارنت أسلوبه في بناء وتنمية جرعة الدراما والمأساة مع شقة في شارع أبو نواس تجد أنه انتقل من الهدوء والمكان المحدود والتكتم إلى العلن والمشاهد الخارجية.
فهو يرمز للعنف في روايته "شقة" بالاغتصاب والقمع السياسي وصراع الدولة مع المجتمع.
بينما في "غراميات" يتحول العنف إلى فضيحة علنية.
وتجد بالإضافة إلى الاقتحام والسرقة والمعارك المطاردات وسباق السيارات هذا غير الجنس المشكوف والملتهب على طريقة كولن ولسون في "آلهة المتاهة" أو ألكنسدر تروكي Alexander Trocchi في "خطافات جلدية thongs ".
إنه مجرد ترميز للالتحام والصراع واحتكاك العضلات بالعضلات ليدل على انجراح حضاري يعقبه الدم.
أخيرا وليس آخرا يذكرني عنوان الرواية بعنوان مسرحية لآرثر ميلر هي (موت بائع متجول) فالموت وهو سكون وخمود يتجاور مع التجول الذي يدل على الحركة والتنقل.
ولذلك يمكن أن نقول إن كلا العملين لديهما نوع من الحافز للفكرة الاجتماعية التي من خلالها نتعرف على أزمة جيل.
وهو جيل مجتمع يعيش ظروفا حالكة "في عمل ميلر" لكنه جيل حضارات مختلفة لا تثق ببعضها البعض "في حالة برهان الخطيب".
وهذه هي ميزة رواياته منذ "ليلة بغدادية" ومرورا بـ "على تخوم الألفين" وحتى "الحكاية من الداخل"، فهي روايات أجيال تتصارع للخروج من أزمتها العالمية وتبحث عن جسر يقودها إلى الأمان.