ادب وفن

بين الواقعية الاشتراكية والتوليتارية التدميرية / جاسم المطير

الكاتب العراقي احمد النعمان مثال يمكن تقديمه ، إيجابياً، حول حرية (السرد الروائي) باعتبارها السبيل الأمثل والأقدر على الوصول إلى جميع افكار ومشاعر ابناء الشعب في زمن معاناة واقع اضطهاد شامل. هنا نموذج اخر من كتّاب الرواية العراقية عاش تلميذاً ومعلماً وفناناً في الاتحاد السوفييتي. عاش في نغمات الحكم الشمولي وواجه رموزها ونواقصها واخطاءها وعَطلاتها. احتسى الفودكا مشروبها المفضل وتعجب بإنجازات عمّالها وفلاحيها وعلماءها ومكتشفي الفضاء الخارجي ، لكنه كان يواجه نفسه حول المستقبل السوفييتي المشكوك بتطوره . بل انه كان يظن ان انهيار هذا النظام هو مضمون قادم بدون تردد لأن مجتمعاً بلا حرية، هو مجتمع مريض، ينتقل ميكروب المرض كل يوم من جزء إلى آخر من الجسد الشامل. من هنا وجدت رواية (الانهيار) تتمتع بخاصية تغري على القول انها رواية ذات حيوية لكاتب عراقي يعيش ، بكل انواع الحيوية والمتابعة والخيال، في غربة معقدة .
حين تقرأ رواية الانهيار تتوقف عند النقطة التالية :
ظلال وأحداث سياسية متلاحقة تشكل خطوط الطول في الرواية .
عواطف مكثفة ، نوايا فردية وجماعية في الخير والشر ، أحداث جرمية متتالية تشكل خطوط العرض في البناء الروائي وتنسيقه التكنيكي .
نعرف كم هي بسيطة رغبة كتابة (الفكرة ) لكن كم هو صعب خلق التناسق بين الرغبة وممارستها بمستوى عمل روائي مؤوّل من تجربة سياسية معينة هي في (الانهيار) تجربة دولة عظمى هي الاتحاد السوفياتي .
توصف الرواية ـ أي رواية ـ في أحد جوانبها بأنها أحد طقوس متعة القارئ ..فأما ان تجعلك قراءة الرواية متخشباً وإما ان تكون متمتعاً ..
فما الواقعة الطبيعية والتلقائية التي خلقتها عندي قراءة هذه الرواية برغبة محكمة بآلية النقد ..؟
ما هي ذاكرة الرواية وما ذاكرتي عنها ..؟
أقول أولاً أن رواية (الانهيار) هي رواية مهتمة اساساً بتعدد معانيها السياسية خرجت من بين يدي كاتب ، فنان ، ناقد ، بتكوين عقلي ـ روائي ـ فني ولم تخرج من يد باحث سياسي أكاديمي . من هذه النقطة استطاع الكاتب العراقي المغترب (أحمد النعمان) أن يتجاوز الوقوع في تقريرية السياق الروائي . أتذكر هنا تحذير ماركيز من ( أن الحفرة موجودة أمام كاتب الرواية السياسية..). تحذير ماركيز آت من تجربتيه في كتابة عمود صحفي سياسي يتابعه قراؤه ، وروايات تخلب لب جائزة نوبل .. انه يخشى دائماً وقوع الرواية بضربات العمود الصحفي السياسي.
في عام 1905 كتب مكسيم غوركي روايته السياسية عن نشوء الثورة التي أفضت الى نشوء مدرسة ( الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن ) وبعد مائة عام يكتب د. أحمد النعمان روايته السياسية عن ( انهيار الثورة ) وعن انهيار وليدها (الاتحاد السوفييتي) فهل أعلن انهيار الواقعية الاشتراكية ..؟
هذا أول سؤال فرض عليّ مراجعته .
بغض النظر عن بعض ملاحظات سأذكرها لاحقاً في سياق موضوعي ، أشير أولاً الى أن الكاتب لم يتوقف ـ روائياً ـ في معالجات نقدية جامدة لموضوعة التبعية السياسية . لم يتوقف ـ سياسياً ـ في معالجات سياسية أو اجتماعية جامدة لموضوعة التبعية الروائية . أنما خرج به واقعه الروائي في رؤية منهجية منفتحة عن المجتمع السوفياتي الشمولي بخلاصة ( كل شيء معقول في مجتمع غير معقول ) . بإمكاني تغيير هذه الخلاصة إلى خلاصة مضادة بالقول: ( كل شيء غير معقول في مجتمع استهدف صانعوه أن يكون معقولاً) .. بمعنى أن احمد النعمان استخدم الرؤية الوجدانية الرومانسية في نقد (الواقعية الاشتراكية) وتحليل ظواهرها على وفق خط ومنهج يساريين من داخل بنية الواقعية الاشتراكية ذاتها لكن في عصرٍ أكثر تنويراً وبسعيٍ أكثر جرأة .. بذلك هجر العديد من القوالب الجامدة التي صاحبت دراسته الأكاديمية ذاتها في الجامعات السوفياتية أيام كان طالباً فيها ..
رواية ( الأم ) لمكسيم غوركي هي رواية متكاملة التكنيك، بالمعنى الأدبي، إلى حدٍّ ما ، رصدت متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية خلال أحداث الثورة الروسية عام 1917 باسطة المسببات والنتائج دون أن يقع كاتبها في (حفرة) التحليلات والتفاصيل البحثية ..
رواية (الانهيار) رصدت متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية لما بعد نجاح الثورة الروسية وتطورها حتى بلوغها درجة (الكمال) التوليتاري . صاغ أحداثها بعين وأفكار الصحفي المراقب، الذي عاش أكثر من ربع قرن شاهداً على تراجيديا سجلها لاحقاً في روايته ..
الشخصية الاساسية في رواية الأم كانت ( أم بافل ) وهي محدودة الوعي السياسي، بل لا تملك أي مستوى من الوعي السياسي، كما ليس بمقدورها أن تفهم معاني الثورة والاعمال الثورية غير أن عواطف ( الأمومة ) وحدها هي محرك أحداث الرواية .
أما الشخصية الأساسية في رواية (الانهيار) فهي متجسدة بالسفاك ( جيكاتلا ) الذي قتل 53 انساناً خلال مدة زمنية معينة وهو سليم العقل واعٍ تماماً لما كان يفعله مقدراً تأثير ذلك في الواقع السياسي والاجتماعي . إذا كانت ( أم بافل ) قد أظهرت وبرهنت قوة الثورة وعمقها ، فأن ( جيكاتلا ) قد أظهر ضعف الثورة في مرحلة عليا من تطورها كما أظهر أبرز نقاط أنحرافها ..
وإذا كان مكسيم غوركي ومن بعده تلامذة الواقعية الاشتراكية قد أظهروا في اعمالهم الروائية العلاقة بين الفنان الثوري والسلطة الثورية ، على اساس من الحب المتبادل فأن أحمد النعمان أظهر ، بشكل ما ، الكره المتبادل بين الفنان والسلطة التوليتارية .
في البنية الفنية لأفكار الرواية محاولات تجديدية عبر استرجاع الذاكرة الجمعية السوفياتية ، ذاكرة الشعب وذاكرة النخبة ، حاول بها المؤلف أن يكثف رؤياه ببلاغة ووعي معاصرين ، لاقطاً من الاحداث دلالاتها الأحيائية . ففي إشارات صغيرة جداً عن الشاعر الموجيكي (يسينين ) القروي السكير جسد شكلاً من أشكال علاقة (الوعي ) بالسلطة السوفياتية . فقد كان يسنين يكرهها ، وهي تكرهه بدورها لان كل واحد منهما كان ( يعرف الاخر) بوعيٍ متميزٍ عالٍ .غمرته السلطة بالتناسي لأنه كان شاعر الحب والنساء في زمن المد الثوري البروليتاري، لذلك اعتقلت الشرطة اشعاره حتى انتحر .
فيما تبنت نفس السلطة شاعر الثورة مايكوفسكي، الذي كتب شعراً بلغة البروليتاري البسيط ذات الشعارات الملتهبة والسطحية والذي اكتشف بنفسه وبحسه الشعري المرهف عقم القضية ،التي وهب شعره لها فعز على (مايكوفسكي الإنسان ) أن يخون (مايكوفسكي الفنان) فانتحر ايضا .
القتل والانتحار إذنْ كانا موضوعان غامران بالنسبة للكتّاب والفنانين وغيرهم من أصحاب الوعي .
تتناول رواية (الانهيار) جانباً آخر من أعماق أجهزة السلطة السوفييتية ورمزها الأعنف ( كي . جي . بي ) التي غشيت اعينها في زمن طويل فصارت ترى الحر جانياً كي تترك الحرية للجناة الحقيقيين.
صار الجاني حراً في الاتحاد السوفياتي بينما القادة والحزب وأجهزتهما القمعية مشغولة بالمناقشات (النظرية) وبالتحولات، التي كانت الأرقام المجردة والاحصائيات الرقمية تغشها وتخدع المواطنين بمعطياتها الصورية .
تتوالى أحداث الرواية انعكاساً لتوالي الاحداث الجارية في المجتمع السوفياتي المرصودة بعين الصحفي العراقي ( الأجنبي) أحمد النعمان في الأرض الشاسعة التي كانت تبتلعها ـ قبل الثورة ـ العتمة والجليد .. بينما تبتلع في أواخر عمرها ـ قبل انهيارها ـ ذات العتمة مضافاً إليها حديد ونار ، حتى غدا الصنف الهستيري من المجرمين يسيّرون قضيتهم كما يشاءون من دون وازعٍ من رقابة الشرطة :
فُقدت المواطنة سافينا فوجدوا جثتها في البحيرة ..
قتلى وضحايا بأساليب عديدة متجددة ومتغيرة ..
عصابات تسيطر على المخدرات وعلى الاطفال.
اتاوات ورشاوى في مختلف اجهزة الشرطة والحزب والدولة.
جرائم قتل مبهمة فاعلها غائب عن أنظار الشرطة.
انحرافات وأخطاء في السياستين الداخلية والخارجية .
أخطاء حزبية وصناعية وزراعية .
أخطاء نظرية .
المافيات تخترق سلك الشرطة وتسيطر على قياداته .
تستمر أحداث الرواية متتبعة خطى بطلها جيكاتلا حتى يجد القارئ نفسه ، عبر واقعية الأحداث ومعطياتها ، أنه يساير فيلماً بوليسياً أمام عينيه في غرفة مظلمة .
تلك هي ، بلا شك ، التلقائية الوحيدة لمجتمع السوفييت الذي حاربت ثورته اساليب القمع في البداية فصار مقموعاً في النهاية . حارب الاستغلال بموجب نظريات الثورة فصار مستغلا بعد انحرافات الثورة . في كل الاحوال كان " البوليس " سيد المواقف ومحركها.
تمكّن الروائي احمد النعمان أن ينضج عملاً يكاد يكون في جزئه الأعم من اختصاصات الباحثين الأكاديميين ، التي شاءت أن توقع د. أحمد النعمان في ( حفرة ) بعض الصياغات التقريرية ، لا الروائية ، من مثل : (تلك البدعة التي حولت روسيا من بلد مصدر للقمح والحبوب والمنتجات الحيوانية للخارج الى مستورد لها وبالديون..ألخ ص14 ) لولا تداركه مثل هذه الحفرة التي واجهها في أكثر من مكان لكان القارئ يجدها تطغي بعد الصفحة 14 في مجموع العمل .
بنى شخصية بطل العمل المنقاد بدوافع سيكولوجية أو ربما حاول أن يصارع قوة التحدي القمعي بقوة التحدي الاجرامي مما سمح للمؤلف الخروج بدلالات فنية في رواية تناولت موضوعاً يتعلق بموطنٍ هو غير موطن الكاتب . ذكّرني أحمد النعمان بما فعله الكاتب الروسي فلاديمير نابكوف الذي هاجر من روسيا الى بريطانيا وكتاباته الروائية عن مجتمع غير مجتمعه ..
من نجاحات البنية الفنية أنه منع حالة (التخشب) التي يقع فيها قارئ رواية سياسية بصفحاتها المائتين والثلاثين. أسر أحمد النعمان قارئه بمبدعات استخدامه لذكريات من عظماء الأدب الروسي بوشكين وديستيؤفسكي والشاعر يسنين وغيرهم من خلال التجدد والتحول في رسومات المشاهد وحواراتها وليس فقط من خلال عمليات بنائية فنية متعاقبة ..
ختاماً أقول :
استحق تقييم رواية (الأم) تقديراً خاصاً من لينين عندما قال لمكسيم غوركي : لقد ظهرت روايتك في الوقت المناسب . أما رواية " الانهيار " تستحق أن يقال عنها أنها ظهرت بالشكل الفني المناسب في الوقت المناسب، مستفيدة ، إيجابياً ، من رؤى وخيالات وأساليب الواقعية الاشتراكية دون التبعية لها .
بالنسبة لي وفّرت الرواية طقوس المتعة كاملة في طول خطوطها وعرضها. كانت تسجيلاً لمناخ جغرافي – سياسي أدان فيه مؤلفها (النزعة التدميرية) التي مارستها قوة سياسية غريبة دخيلة انتزعت الموضوعات الجمالية من أيدي المناضلين الشيوعيين الحقيقيين صانعي اسطورة بناء مجتمع انساني نبيل لا يستغل فيه الانسان أخيه الانسان ..