ادب وفن

"أصدقائي الكلاب".. إجهاض التجربة في غرائبية الحدث / جمال العتابي

في تسعينيات القرن الماضي، كنا نحيا واقعاً هشاً لا قاعدة له يمكن الركون إليها، فالغربة والجوع والاستبداد اجتمعت معاً، والممنوعات تحولت إلى أشياء مألوفة، فالإنسان العراقي وجد وسائله البديلة في مفاصل حياته جميعها ،ليتآلف مع واقعه المأساوي، بدلاً عن المواجهة والرفض لا الخروج منه، فظل عاجزا مشلولاً غير قادر على البحث عن السبل التي تنقله إلى واقع أفضل.
وفي ميدان الفكر والثقافة، هناك مساحات شاسعة تفصله عن المنجزين الثقافيين العربي والعالمي ، إذ تقطع البشرية يوميا أشواطا ًهائلة في المعرفة والتقنيات ، وتواصل تطورها السريع .
ظلت ذائقة المثقف العراقي المتصدعة ، رغم الظروف القاسية، تبحث عمّن يوقظها لمواجهة التحديات، محاولاً عدم ارتهان نفسه للزمان والمكان، باحثاً عن كوى صغيرة يطل منها على العالم ، وآفاقه الجديدة، لتسهم في إرواء مناطق العطش في روحه. تلك الوسيلة، هيأت له فرصة الإطلاع على بعض الإصدارات التي تعدّ ممنوعة وفق اشتراطات النظام آنذاك ،وتداول المثقفون بأقصى ما يمكن من السرية، العديد من الكتب "المصوّرة" عن الأصل، ومنها كتاب "البحث عن منقذ" للكاتب فالح مهدي.
كنت أخال حينها ان الكاتب تخفّى بهذا الاسم "المستعار" وهو يمتلك كل الأسباب والمبررات في حجب اسمه الحقيقي، مما ضاعف فضولي لمعرفة الكثير عنه ، بعد أن نال كتابه تميزاً في التداول الخفي، وقبولاً وتفهما للآراء المطروحة فيه، فكان مفاجأة لمن قرأه، إذ لم يسبق لنا التعرّف على منجز "فالح مهدي" الفكري .
تتوالى السنوات، لأكتشف وغيري ، ان الكاتب فالح مهدي، وهو اسمه الحقيقي ، أسهم بإضاءة العديد من دروب الوعي الإنساني ، برؤاه وأفكاره النيّرة المثيرة للجدل، وتعدد مواهبه واهتماماته، وأجناس الكتابة لديه، كان آخرها كتاب "الخضوع السني والإحباط الشيعي"، وهو مثابر بحرص وجد متناهيين لإكمال مشروعه الفكري التنويري ، بالدعوة إلى الحوار واحترام الرأي الآخر، وتعددية المواقف الثقافية ،ورفض العنف والتطرف تلبية للحاجات الاجتماعية والفردية ، وهي بمجملها قابلة للتغيير والتجديد .
المفاجأة الأخرى اللافتة للانتباه ، هي ان فالح لم يتوقف عند هذا النشاط المعرفي، بل اتسعت مساحاته محاولاً اكتشاف جوهره بأجناس أخرى من الكتابة ، وخاض غمارها ،فكتب الرواية والقصة القصيرة ، فضلا ًعن تخصصه في القانون وتاريخ الأديان، فصدرت له مجموعة قصص قصيرة "الصلوات تغتال الصمت 1999"، وروايتان هما "صلوات الدم 2012"، و"أصدقائي الكلاب" التي نتناولها في هذه المقالة.
نُشرت الرواية باللغة الفرنسية وترجمها الكاتب الى العربية ، والمنحى العام لها يقدم وقائع الحياة التي واجهها "البطل" الراوي ، من خلال حكاية، حقيقية، متخيلة، بلغة مبسطة ومركزة، تخفت فيها الاصوات ، وتختلط فيها الأزمنة والأمكنة، تتلاشى فيها الشخصيات حيناً، وتظهر حيناً آخر بقوة ، تضمحل الأحداث وتفقد ديناميكيتها بلعبة السرد التي مارسها الكاتب ليضم كل هذه السمات، إلا ان نجاح الرواية ، في قدرتها على ان تكون فنية ، مطواعة ، بيد قادرة على الاستخدام الأمثل للأدوات .
يفصح الراوي منذ الأسطر الأولى مغزى العنوان "الرمز"، يلبس البطل جلد الحيوان ويلبي نداء العواء الصادر عن الناس من حوله ، محاولا ان يمنح الرمز بوصفه وسيلة بناء فنية تعبيرية ، قيمة أدبية ذات تأثير نفسي في القارئ ، ووظيفة جمالية إيحائية تتجاوز الدلالة اللغوية. ونستدّل من هذا الإفصاح على ان المعادل الموضوعي للرمز هو المطاردة بمعناها البوليسي ، التي لاتدع الإنسان يلتقط أنفاسه ، مرعوباً ، هارباً لاهثاً نحو المجهول ، تلاحقه كلاب السلطة ، من سجن الى خدمة عسكرية لعدة مرات، ومن اختطاف إلى ساحات الحروب المجنونة، هكذا يحاول الروائي بذاكرته المزدحمة المتداخلة، أن يدور في فضاءات تتشكل وفق غرائبيتها، توحي دائما بالتصدع والمفاجأة. مشغولاً بالبحث عن بنية للسرد لما هو أكثر من مضمونه .
لا يحاول الراوي الابتعاد عن العالم الحقيقي، أو بناء عالمه الخاص بكل إيحاءاته الممكنة ، وتفاصيله الكوميدية والتراجيدية ، للتعبير عن حالة القلق والخوف الذي يرافق حياته ، حتى في عدم الإفصاح عن اسمه لنهاية الرواية ، مشاهدات لأحداث سياسية وتاريخية ، أحلام وكوابيس ، تعذيب في زنزانات السجون ، موت الاصدقاء والاقربين ، تجارب حب وعشق وزواج فاشلة .
يتحول الراوي إلى كائن بليد، محاصر ومحتقر ومرفوض، حين يقضى خدمته العسكرية الثانية مع فصيل البغال ، وهي مهمة مخصصة للخارجين عن القانون ، أو من بهم لوثة عقلية ، عليه ان ينسى كل تاريخه ،ليس ثمة فرصة بتقديم نفسه كخريج، أو مثقف يساري الهوى، العاشق للفتيات، زميلته "كولالة"، أو المتزوجات "شهلاء" الموظفة في مكتبة الجامعة، عليه أن يواجه قدره لوحده، حين تنطوي الزهور على ذاتها بعد انقلاب 1968، إذ تتحول البلاد إلى سجن كبير ومركز للتعذيب وطاحونة للموت ، فكان من أولى ضحاياها ، لمرتين ، في الثانية منها ، يحاول الراوي أن يجد سببا لاعتراف وليد صديق طفولته وأعزّ أصدقائه ، كونه شريكه في العمل السياسي ، وهو الذي لم يمارسه أبدا، في المعتقل يحاول الراوي استعادة كل مغامرات الطفولة والصبا مع شريكه وليد، وتبدأ معها لحظات المكاشفة مع الذات بأسئلة متلاحقة لا جواب لها.
تتطور الرواية من حكايات في الذاكرة ، إلى محاولة إنتاج مزدوج يحقق نوعيتها كخطاب سردي منفتح على مواجهة التحولات في الأحداث ، فالرواية لا تخلو من خطاب مباشر في المتن، وحكي تقليدي أربك القارئ وأفسد عليه متعة المتابعة والإنشاد للنص ، ويبدو ان الروائي حاول أن يقدم تجارب الشخصيات بقصد توضيح التجربة المجهضة، وعلو وتيرة القمع وانهيار الحلم. في البحث اللا مجدي عن "إلياس" شقيق البطل المختفي، سافر إلى الهند فوجدها معبداً مذهلاً للتعايش بين التقنية والأساطير ، وحب جديد مع "ميراندا"، وفي باريس عليه أن يدافع عن نفسه في المحكمة التي أدانته بسبب اطلاقات الرصاص التي وجهها الى "سنوبي" كلب زوجته "دومنيك"، التي طلّقها بقرار من المحكمة ، موت شقيقته نيزك، وتعلقه بسامية زوجة النجار ابو حسن الذي ساعده في العمل وقاده فيما بعد الى جامع الحيدرخانه ليتلقى الدروس الدينية .
في رحلة البطل يبلغ الانفصام والتشظي حداً اقصى لهما، في عالم يخلو من الإنسانية ، ويدفع باتجاه تدمير ما يبدو يقينياً، تظل المطاردة تلاحق الراوي وسط مشاعر الوحشة والخوف والقلق ، يعود به إلى ساحات الحرب من جديد، بعد اختطافه من قبل سلطات الأمن في مطار عمان، القادم إليها لزيارة أمه قبل رحلتها الأخيرة، ويمضي الروائي إلى أبعد من ذلك في تعميق إحساسنا بحسرة المختطف حين تموت أمه وهو يواجه مصيره في محكمة عسكرية تقرر تنسيبه الى مركز تسليم جثث قتلى الحرب على حدود البصرة.
في الأيام الأولى يصاب بالغثيان ، والرغبة في التقيؤ، ترتجف يداه وهو يغسل جثث الجنود القتلى، يتحول خرير دجلة والفرات إلى نحيب أمهات فقدن أبناءهن في تلك الحروب. لازمه الخوف والبكاء، فلجأ إلى التخفيف من وطأة كوابيسه إلى حوار مع الجثث ،يمنحها أسماءً وهمية ووسامة، وخصلات شعر، ورؤوساً بديلة عن المقطوعة، ويزّف الشباب إلى حفلات عرس يقيمها، يحضرها المغنون والموسيقيون .
في اعتقادي إن التوظيف الفني لهذه الحوارات الداخلية ، والتركيز عليها من قبل الروائي ، كان يمكن أن يمنح الرواية بعداً تجريدياُ غير محدود ويرتقي بها إلى مستوى تعبيري شفاف. لقد جاءت هذه اللوحة في نهايات الرواية، لتكشف معانٍ كثيرة ، لم تحاول الرواية التعبير عنها في السرد ، بل شغلت قضية الكلب "سنوبي"، واشتراطات الزواج من مادلين مساحة أوسع في صفحات الرواية ، من أجل تحميل الحدث مستوى دلاليا موحياً لعنوان الرواية ، ومما يجعل من حضور العواء في مطلعها ذا وظيفة درامية مقصودة وبعدا تعبيريا غير مصرّح به .
ختاماً لابد من القول أن قراءتي "أصدقائي الكلاب"، واحدة من الاجتهادات الممكنة، فربما أية محاولة لقارئ آخر، يجد ما لا يتفق مع فهمنا لأحداث الرواية.