ادب وفن

نادي القصة غربة وقصة أخرى / محمد المنصور

في الأمسية الأولى لنادي القصة هذا العام في ستوكهولم، وهي الثانية التي يقيمها إتحاد الكتاب العراقيين في السويد، كان فرات المحسن في غربته وهنينغ مانكل في زيارته إلى فالاندار، هما ضيفا هذه الأمسية، التي امتدت لأكثر من ساعتين، ما بين قراءة النصوص وتداخلات الحاضرين، وقد بدأها الكاتب فرات المحسن في قصة (غربة)، برسم صورة ذات بعدين، تفصل بينهما سنواته الستين، في صباح سويدي بارد، تناثرت فيه نتف الثلج على العشب، وتلاشت عند ملامستها الجدران، لتبحر به بعيداً .. بعيداً وترسو عند شواطئ الذاكرة، حيث الشط واللبط ونداءات النساء، قبل أن توخز الغربة أحلامه الندية، ليصحو على صفير الريح في شيخوخة الشجر، لوحة أدبية أكثر من كونها قصة قصيرة، إنها غربة الروح والجسد.
"أصحو فجراً وفي وهدة الروح، أتلمس العشب الندي المرمي أمام نافذة شقتي. أتضرع للأفق المغلق الهابط بوحشته جواري، ونتف الثلج تهبط مترنحة بتؤدة فوق الحاجز الخشبي. نثار الثلج ألملمه وسادة رخية، وشاحاً من لعل وأين. شيء من الذاكرة يثقب ذاك الصمت، الصمت أكبر من صوتي، يخال ليّ أن الشفق المرمي في البعيد وحيداً، مستنزفاً، ثقيل الخطى كان". هذه صورة الخواء النفسي لدى الإنسان، كما جسدها المحسن في غربة الوجع والألم، ليكمل اللوحة بصورة التمني، ويتوسل الكلمات: ممكن ... ممكن. "ممكن.. أرى ضوء الشمس يتسلل رويداً رويداً ويمسد جدران غرفتي الصماء. تنقلني خضرة الحقول لتلك المدن الصاخبة، هناك حيث بدأ أصحابي لعبتهم الأولى دون حساب، هناك حيث يلبط جسدي رخياً خفيفاً في غمر الشط وتناديني بخوفها أصوات حشد نساء، لا تبتعد أيها الشيطان الصغير. فأضج ضحكاً وألبط ألبط، ألبط في البعيد .. على غفلة لكزتني الغربة: لا تذهب بعيداً".
الكاتب فرات المحسن: مواليد عام (1949) في قلعة سكر، خريج جامعة بغداد كلية الآداب قسم اللغات الأوربية (اللغة الروسية)، منذ انتقاله إلى السويد بداية أعوام التسعينات من القرن العشرين، شارك في العمل التطوعي لعدد من منظمات المجتمع المدني العراقية، مارس العمل الصحفي رئيساً وسكرتيراً لتحرير بعض المجلات الشهرية والدورية، التي كانت تصدر عن بعض مؤسسات المجتمع السويدية ذات الأصول العراقية، مهتم بالشأن السياسي الاجتماعي والثقافي العراقي، أصدر مجموعته القصصية الأولى (فيما تبقى) عام (2010)، له مجموعة قصصية جاهزة للطبع، ينشر قصصه في الأبواب الثقافية للمجلات والصحف العراقية والمواقع الالكترونية.
الكاتب السويدي هنينغ مانكل، كان حاضراً بعطائه الثر، وبمواقفه الإنسانية المتميزة، وبرحيله المفاجئ عن عالمنا، في قصة واقعية، غلب عليها حسه الدرامي، واشتغاله المسرحي والسينمائي، لتبتعد قليلاً عن السرد القصصي، وتقترب من أطراف الرواية المعاصرة، في (زيارة إلى فالاندر)، يسلط الضوء فيها على برودة العلاقات الأسرية في السويد، البلد الأكثر برودة في الشمال الأوربي، حيث أدرك فالاندر أخيراً، بأن مشاغل الحياة أبعدته عن أبيه كثيراً، في وقت لا يجدي الندم فيه نفعاً، ولا يمكن للدموع أن تغسل أوحال الزمن، وقد كان الكاتب كريم السماوي، موفقاً جداً في ترجمة هذه القصة الرائعة.
"الابن فالاندر: صار واضحاً أننا سنغادر إلى ايطاليا. وسآتي إليك خارجاً بأسرع ما أستطيع. الأب: ربما ستكون رحلة لطيفة. المرء لا يعرف بالضبط. غادره فالاندر وذهب إلى الفتاة في مركز الاستقبال، قال لها: أطلب من لطفكِ. يبدو من المناسب تماماً أن تسمحي لوالدي بالانتظار هنا من أجلي. عاد إلى غرفته. فجأة لاحظ أن الدموع تغمر عينيه. فعلى الرغم من العلاقة المتوترة والمتأثرة بضمير سيء مع والده، فقد شعر بحزن عميق يلفه وهو يغادره بعيداً. وقف عند النافذة ونظر نحو الخارج فبدا طقس الصيف الجميل".
هنينغ مانكل (1948 - 2015) روائي سويدي، اشتهر برواياته البوليسية، كما أنه مخرج سينمائي وكاتب مسرحي، وقد تحولت بعض رواياته إلى أفلام سينمائية، كتب للأطفال واليافعين وكتب القصة القصيرة، ونال عن أعماله جوائز عديدة، وقد تـرجمت كتبه إلى أكثر من (40) لغة عالمية منها اللغة العربية، مثل: رواية (قاتل بلا وجه) ورواية (الكلاب في ريغا)، اللتان ترجمهما الكاتب مهدي صالح المالكي، ورواية (سر النار) التي ترجمها الكاتب جاسم الولائي، وتدور أحداثها في موزمبيق، البلد الذي يعشقه مانكل، وقد تبرع هنينغ عام (2007) بمبلغ (15) مليون كرونة سويدية، لصالح منظمة قرى الأطفال (SOS)، لقرية (شيمويو) غرب موزامبيق، كما تبرع بمبالغ كبيرة لمنظمات خيرية أخرى، معنية بمكافحة الفقر، مثل منظمة (يد بيد)، وكان مانكل على متن "أم أس صوفيا"، إحدى السفن التي شاركت في أسطول الحرية، الذي حاول كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة عام (2010)، وبعد مداهمة الأسطول من قبل القوات الإسرائيلية، تم ترحيل مانكل إلى السويد. وقد دعا فيما بعد لفرض عقوبات دولية على إسرائيل، وقيل وقتها أنه ينظر بمسألة إيقاف الترجمة العبرية لكتبه.
بعد أن استمعنا إلى هاتين القصتين الرائعتين، أضاف الحاضرون بآرائهم وتحليلاتهم واستنتاجاتهم جميعاً، دفقاً وحيوية على هذه الأمسية، التي تفاوتت بتفاوت الثقافات والأزمان والأحداث، ومن هذه الآراء نختار:
الكاتب جاسم الولائي: تبدو قصة غربة للكاتب فرات المحسن، أكثر سحراً عندما تسمع من أن تقرأ، فطاقتها أقوى بتوليد الأفكار في الذاكرة، وطاقتها أقوى عندما يستقبلها المتلقي ويقوم بتحليلها وتفسيرها، حسب ظرفه وهاجسه الوقتي الذي يعيش فيه، وهي قصة قصيرة لكنها مشبعة، أما قصة زيارة إلى فالاندر للكاتب هنينغ مانكل، فهي قصة نفسية أكثر من كونها قصة فنية إبداعية، وهي من القصص التي تتناول علاقة الأب بالابن، ومن الواضح أن الابن لم يندم عندما صرخ بوجه أبيه، وأن العلاقة متوترة بينهما، وأن الابن هو السبب في توتر هذه العلاقة، ويبدو أن الأب إنساناً جيداً، لكن الحوار بينهما لم يكن ودياً، ولكن في المقطع الأخير، عند مواجهة الابن للطبيعة بعيون دامعة، فتحت له نافذة كبرى على العالم كله، وكانت الضربة الإنسانية الكبيرة.
الكاتب كريم السماوي: عندما يصف فرات المحسن الطبيعة، يصفها من عدة زوايا، بحيث يجعلك أن تفكر وتقرأ معه، وتشعر بأن هناك شيئاً ما ستصل إليه، ووصفه للطبيعة والحوار الداخلي رائع جداً، وعندما يأتي هنينغ مانكل ويتحدث عن الحياة والعلاقات الاجتماعية في بلد مثل السويد، الذي ترى فيه التفكك الأسري واضحاً، وهو يختلف عن حياتنا وعن أهلينا في أوطاننا، فهو أمر طبيعي في الحياة الأوربية، مع هذا تجد أن الإنسان في لحظة ما، يشعر أن هذا الأب الذي أوجده، أو كان سبباً في وجوده، مصاب بهذا المرض، الذي قد ينسيه كل شيء، فينظر إلى الحياة ويجد فيها الجمال، ويجد الطقس فيها جميلاً، ففي هذه اللحظات تتكامل مشاعره بانهمار دموعه، وقد خلق مانكل شخصية محقق الشرطة (كورت فالاندر)، من مركز شرطة مدينة (ايستاد)، الواقعة بمحافظة سكونه جنوب السويد، وهي شخصية ذكية، قادرة على فك ألغاز الجرائم الكبرى، وتحاكي شخصية (شارلكهولم) للروائي آرثر كونان دويل أو شخصية (هيركبول بوارو) لأجاثا كريستي أو شخصية (جول ميغرية) لجورج سيمنون.
الكاتب فرات المحسن: كل قصص الحواريات المهمة تجعلك تتبع الحوار، ففي كل مشهد هناك صورة، وهذا ما تجده في قصة زيارة إلى فالاندر، فعندما يذكر الأب كرة القدم، يريد أن يثبت أن ذاكرته حية، في حين التفسير الآخر الذي يستمر إلى لحظة الوداع، هو العلاقة المتشنجة بين الابن وأبيه، التي تنتهي بندم الابن، فالحواريات هذه تختلف عن الصورة، فأنت عندما تختلق صورة وتجزئ المشهد، تطرح المشهد بعموميته لأنك أنت الراوي، والاختلاف هنا حسب تصور المتلقي، وما قصدته أنا في قصة غربة هو مشهدين فقط، المشهد الأول: هو حالة اليباس النفسي لدى الإنسان، الذي يشعر بالغربة والوجع والألم، في عامه السابع والستين، وهذه الوحشة القاتلة في الظلمة والبرد وتساقط الثلج، والمشهد الثاني: هو التمني بأن يدس أحدهم في قلبه جنح فراشة ويرجعه إلى الطفولة، ويتذكر عندما كان يسبح في الشط، ويستمع إلى خوف النساء عليه عند الشاطئ، فتلكزه الغربة وتقول له: لا تذهب بعيداً، هذه هي صورة فقط وتخلو من الحوار تماماً، لكنها تحتفظ بحوارها الداخلي.
في الختام قدمت العديد من الآراء والأفكار والمقترحات منها: أن ييتم التركيز في أماسي نادي القصة، على الكتاب العرب المغتربين، وتناول أعمالهم بالنقد والتحليل، ومناقشة موجزة لكتاب أدبي معين، أو مجموعة قصص قصيرة جداً، أو عرض صورة مختارة في موقع الإتحاد، ويطلب من المهتمين تقديم عرض موجز عنها، للتنوع والإثراء في الأماسي القادمة.