ادب وفن

«وحيدا في الأزقة أغني» والانتقال من الاعتيادي إلى الاستثناء / حميد حسن جعفر

كيف تتشكل الحكمة بين يدي اللغة؟، اللغة كائن نرجسي ما أن يضع الشاعر يده عليها حتى تسحبه نحو العبارة الغامضة التي سيكون هو الشاعر منتجها، على الرغم من أن الغموض جمال إلا أنه لا يعني الحكمة، الحكمة وضوح، واللغة تغامر بأشيائها بخصائصها الجمالية من أجل أن يكون الشاعر حكيما، بليغا.
هل كان جابر محمد جابر حكيما في غنائه الذي حاول ان يؤديه منفردا؟، ليس في الفضاءات المغلقة، بل حيث المفتوحة، المسكونة بالآخرين، الذين ينتظرون من يستفزهم، عبر إلغاء العزلة، في هذي اللحظة يكون الغناء عنصر تطهير. عنصر بهجة وحياة.
والحكمة لا تسع الثرثرة واللغو. وتراكم الجمل، وتدفق العبارات، عند هذه النقطة يقترح الشاعر على نفسه صيغة القصائد القصار، التي يحلو للبعض من المتابعين الإعلان عنها على أنها ما يسمى الومضة متناسين أن الوميض ناتج عرضي لفعل أكبر، متناسين ثانية أن القصيدة تولد لتبقى.
أن بنية كهذه، بنية القصيدة القصيرة، لم تكن ابتكارا للشعراء الذين كتبوها في هذه اللحظة، بل إنها شكل مجلوب من تاريخ طويل للكتابة، إنها بنية الكتابة التي تنتمي إلى الحكمة والموعظة والإرشاد والأدعية والتراتيل، وما احتوت الكتب الدينية من آيات قصار وعبارات وما أطلقه الزهاد و المتصوفة، ولا بد للقارئ والشاعر كذلك أن يتذكر البنية التركيبية لما يشاهد ويقرأ من عبارات على الجدران وسواها - المساجد والمدارس، والأماكن العامة مثل "لأن شكرتم لازيدنكم" او "النظافة من الإيمان" او "من جد وجد ومن زرع حصد".
القول بنماذج كهذه لا بد له من أن تشكل الكثير من محاولات الاستفادة من الأشكال التراثية "الحس الديني والشعبي والكثير من مفاصلها، والتي لا تنتمي إلى الشعر بقدر ما تنتمي إلى الحكمة /النثر.
***
جابر محمد جابر، في القلب من القصائد التي تعتمد في تركيب بنيتها على التعددية - تعدد المقاطع الشعرية - مستفيدة من هذا المنجز اللا شعري، من أجل إنتاج فعل شعري، قادر على إنتاج الدهشة والاستغراب، هذه البنية التي تحتاج الإيجاز والوضوح والى وجود الهدف الصادم واكتمال المعنى.
هل كان جابر محمد جابر منتجا لخصوصيات كهذه؟ لملامح كهذه في الأغلب الأعم تكون القصيدة القصيرة صاحبة سلطة على منتجها، وبذلك ينقاد الشاعر للشعر، معظم او جميع القصائد القصار تخضع للصناعة، كخضوعها للسليقة/ الموهبة، من إتمام صناعتها.
القصيدة الحديثة مهما كان شكلها/ بنيتها، تحتاج إلى الكثير من صناعة الغموض.
وهذا ما كان قد أنتجه الشاعر، الساحر الأول، الذي كان يشكل حينها الاتصال ما بين الأرضي/ الإنسان، والسماوي /الالهة.
ولأن الشاعر/ الساحر هو المنتج للآلهة عمل على أن يزيح ما صنعه بنفسه من سلطات الالهة، بل ازاح الالهة نفسها كذلك، ليتحول إلى ابن للآلهة ومن ثم ليأخذ دور الالهة، ليكون هو الإله، وبذلك تمكن الشاعر من أن يتصدر المشهد الحياتي على أنه الشاعر/ الساحر/ الإله.
هل كان جابر محمد جابر، الشاعر المعاصر، يطمح لأن يكون ابنا نجيبا للآلهة الأولى؟، قد يبدو هذا واضحا للمتمعن، بمفاتيح قصائده، وأعني بها ثريات النصوص/ العنوانات، كما يسميها القاص والروائي "محمود عبد الوهاب"، انه الوحيد/ المتفرد، وهذه واحدة من صفاة الالهة الأرضية.
في الأزقة، حيث يتوافر الحس الجمعي، اغني وما غناء اليوم إلا تراتيل الأمس، وما الأزقة -- في الأزقة - إلا زقورة الأمس.
ربما يتساءل القارئ هل هناك علاقة بنيوية ما بين لفظتي أزقة وزقورة؟ كلاهما ينطلقان من بنية مكانية مسكونة، هل كان الشاعر المعاصر على تواصل/ انفتاح مع الشاعر الأول.. هل كان الشاعر الأول/ الأب يمثل سلطة قاهرة على تفكير الشاعر/ الثاني /الابن!؟
في قصائده القصار ينفرد الشاعر بالنص، مشكلا نقطة استحواذ على مفردات النص لا أحد سواه، فهو المتكلم، وهو المخاطب، وهو الغائب، وهو الحاضر.
هل كان الشاعر نرجسيا وسط فضاء شعري كهذا ؟ قد تكون "الأنا" حاضرة وبكثافة، إلا أنها لم تكن تعاني التوحد /العزلة، حيث تتحول الذات إلى نقطة سوداء في التاريخ الأبيض للشاعر جابر محمد جابر، سليل الجنوب.
الشاعر لا يتحرك من جغرافيا الإحساس بالتفوق على القارئ/ الآخر، بل من خلال وجود الآخر ضمن حاضنة واحدة، حيث الإنسان ما زال إنسانا، لم يتحول بعد إلى ما ينتمي إلى السلطة القامعة، عند نقطة التداخل/ التصادم ما بين الإنسان والالهة، الذكر الذي يتسيد كيان الإنسان الفرد ويزوده لصناعة الازاحة/ الإلغاء، وحيث يتحول الإلغاء إلى قانون.
واذا ما كانت القصيدة القصيرة التي تنتمي ضمن التوافق إلى "الومضة"، هذا الشكل القديم/ الجديد، الشكل الذي وضع حجره الأساس الخطاب الديني/ الكهان/ اللاهوتيين/ الحكماء أولا، والخطاب الوعظي وبقية التراتيل والأدعية، وخير الكلام ما قل ودل، فالشاعر يبث/ والقارئ يستقبل، والقصائد تتدفق، وهذا التدفق الشديد الوقع على القارئ عبر اللغة و الصورة وقوة القيمة/ الأفكار التي تنهض من خلالها القصائد، والأحداث على طرد الخمول من فعل التلقي، هذه المفاصل نجحت في صناعة الغرابة وليس الغواية.
القارئ يجد نفسه داخل النص لا خارجه، وبذلك تحصل الحميمية ما بين النص و القارئ ، لتنتج قراءة، قد تكون متعجلة، ولكن ليس بطاردة للقراءة الأولى في محاولة القارئ للتأكد من قدرة القراءة الأولى أو الثانية على الوصول إلى المنطقة الشعرية المخبوءة داخل النص، حيث تتضافر مروحيات النص مع خزائن القراءة وتمكن من إنتاج حقل شعري يقنع الشاعر بجدوى كتابة الشعر، وبجدوى توفر فعل ينتمي إلى القراءة الواعية.
التاريخ السردي للشاعر، أو لقصيدة الشاعر الخارجة على القصائد القصار والداخلية في القصائد الطوال، هذا التاريخ الذي أعلن عنه الشاعر في الصفحة الأخيرة من الغلاف "قصص قصيرة/ مطر على رصيف الذاكرة/ سلالم الصحو، رواية/ صرخة في وجه الغول" هذا الثراء الأدبي والتخزين المعرفي، من الممكن أن يدفع بالقارئ إلى أن يتحول إلى باحث عن أدوات ولغة السرد، ،والتي استطاع الشاعر أن يوظفها، لنصوصه الشعرية، وتقف سردية الحدث إلى جانب شعرية المخيلة، من ل إنتاج نص شعري قادر على إقناع القارئ بقدرات الشاعر على صناعة منطقة قراءاتية تنتمي إلى كلمات الشاعر والسارد، هذا القارئ الباحث ضمن حالة من المعارف، أو البحث عن المنجز المخبوء للشاعر، سيجد ضالته فيما ينتمي إلى شيء من القصيدة اللا قصيرة.
ورغم وفرة الحس السردي إلا أن الشاعر ورغم أدواته السردية و التجربة المتوفرة، غير مستعد للتخلي عن النص الشعري، من أجل النص السردي، مهما كان قريبا من القارئ ومن الشارع، ليظل محافظا بشخصية الشاعر الذي يشكل أكثر من أولوية في سبيل إنتاج الفعل الجمالي الذي تتميز يه القصيدة مهما كانت بنيتها الشعرية.