ادب وفن

لماذا نحن شعراء بهويات مكانية؟ / مازن المعموري

أتصور نفسي شاعرا يعيش في الشرق الأوسط، وفي العراق تحديدا، محاطا بأسيجة يعلو بعضها خلف بعض، وفي كل سياج بقع ملونة بسبعة ألوان، وعليّ أن أكتشف البقعة التي تدل على النافذة الوحيدة المطلة على السماء..
وإذا صادف أن أمسكت بالبقعة الصحيحة وانكشفت لي صفحة السماء المضيئة فإن من يقف هناك في الخارج سيعيدني إلى النقطة ذاتها، ويصفني باسم المكان الذي كنت أقطنه ذات يوم، لدرجة أن التخلي عن المكان الأول يصبح غاية في حد ذاته، وأنا هنا لا أقصد الانسلاخ من الحاضنة الأم، أو إعلان البراءة منه، لكن الكتابة الشعرية تستدعي التخلص من الجذور لتكون مبرأة من كل أيديولوجيا ضيقة تؤدي إلى كسل اللغة واضمحلالها الدلالي.
لم نقرأ أميل سيوران لأنه روماني، رغم أنه يكتب بلغة فرنسية، أو نابكوف الروسي، أو صلاح ستيتية، أو بول شاؤول وغيرهم، وكل هؤلاء يمثلون الانقطاع عن اللحظة الأولى، عن المرتبة الأدنى في التواصل مع حركة الزمن، التخلي عن اللغة الضعيفة، لأنها لغة غير منتجة للمعارف كما هو حال اللغة العربية مثلا، ولا أريد إهانة أحد، ولكن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها، لذلك يجب أن نعترف بواقعية ونواجه أسوأ مخاوفنا، فهل اللغة وحدها هي السياج المحيط بنا؟
سيكون من المنطقي أن أشير إلى الجغرافيا أيضا، فوجودنا في الشرق الأوسط له دلالات سياسية واقتصادية وثقافية، أتساءل أحيانا: ماذا لو أن محمود درويش فرنسي أو انجليزي؟ فهل كنا سنتعاطف مع كتاباته بالطريقة نفسها؟ وهل كان بدر شاكر السياب تأثر بالشاعر الإنجليزي وكتب أنشودة المطر، بالشكل الرومانسي الجميل ذاته، لأنه يسكن في العراق، يقرأ بلغة أوروبية ويكتب باللغة العربية؟ ماذا لو أن فخري رطروط نيكاراغوي يعيش في فلسطين وليس العكس؟ وأن سعدي يوسف مغربي عاش في العراق؟ والحقيقة فإن الموضوع ليس بهذه السذاجة لأن ربط الأسماء بالأمكنة لا يعني تغيير الثقافات، بل سجن الشعراء بثقافة اجتما- سياسية لا تعنيه من قريب أو بعيد، فكيف يحصل ذلك؟
مجبرون نحن، على تمثيل بقعنا اللونية بصفتها انعكاسات ثقافية، فأنا شاعر عراقي، لذلك فأنا مطالب بأن أصرخ كشاة مذبوحة، وكذلك الشاعر السوري كي يكون سوريا عليه أن يقدم واقع أرضه وشعبه، والفلسطيني والمصري والمغربي.. إلخ، في حين ينسى الشاعر أن له أرضه الخاصة ولونه الخاص، لأسباب آنية وغير ضرورية تفرضها تفاصيل الواقع القلق للمنطقة كلها، عندها يصبح القول بحد ذاته هو الحدث على حد تعبير سارتر، لكننا هنا نتعدى ذلك، شئنا ذلك أم أبينا، لحظة أن يكون الفن وعيا بالتعاسات في ضوء فلسفة هيجل، فتحمل النصوص الشعرية مسوخها الخاصة لتعني المكان دون غيره، المكان الذي صنعها ومارس عليها حضوره القاسي من دون رحمة.
كائناتنا الشعرية تتحول بصفتها شخوص حقيقية تعيش في الأماكن، وتظهر بوضوح في عيون الآخرين، وربما كان ذلك سببا جوهريا يربطنا بالأماكن كهويات لا يمكن الفكاك منها، فرغم أن خزعل الماجدي ترك العراق، أو هرب بجلده منه، فإن قصائده بقيت تجهش بما يتقاطر من دمها على الآلهة العراقية القديمة، الانغماس في قلعة النص كما هو حال زاهر الجيزاني وأقطاب جيلهما السبعيني، وبقاء الثمانينيين في ظلال التمرد وتدمير الذات في أغلب نصوصهم، وهناك قائمة طويلة تقدم لنا نماذج تحاول التعبير عن وجودها في حركة الشعر المعاصر.
إلا أن الأهم بعد ذلك هو الانتقال من الورقة إلى عصر التقنية الالكترونية، وما صاحبها من تغيرات عملاقة في الرؤية والأداء، مع ذلك، بقيت تحولات النص تقليدية في منطقة الشرق الأوسط العربي، إلا في حدود تجربة ميليشيا الثقافة وتجربتي الخاصة في الفيديو الشعري منذ 2014، حيث يمكن ملاحظة الانتقال من الكتابة إلى الفعل كاستراتيجية لخطاب يحاول الوقوف أمام تراكم بصري يشطب مرحلة قديمة ويضع قدمه على عتبة المستقبل.
المكان قراءة الذات، وهذا ليس تأويلا بقدر ما هو فحص لفحوى البقاء في السجن، وليس تخليقا للإحساس كما يريد إيهاب حسن، وليس قلبا للقيم كما يريد نيتشه، بل استدعاء لثقافة الواقع المغيبة بسبب اللغة الشعرية وألعاب الأدب المُتعيّة والجاهزة أحيانا، وعند ذلك يكون الأدب فعلا مهنيا لا يقبل التجزئة، بل يعني الاشتغال على مادة ملموسة، كما يفترض المواجهة والصراع بعيدا عن المجاملات والعلاقات الشخصية وأية آلة اجتماعية تعمل على تحطيم الخطاب وتحوله إلى نسق اجتماعي مغيب.
لقد عملنا على تشفيف "من الشفافية" الأماكن في كل نقلة شعرية يتم فيها سرد علاماته، بما فيها حركة التنقل من نقطة "أ" إلى النقطة "ب"، لذلك كان عمل الميليشيا في صيغته الظاهرية رحلات معرفية لقراءة الأمكنة والتعامل مع سرودها هي لا سرودنا نحن، والصورة هنا هي من يتكلم أكثر من الشعر كنص مقروء أو مسموع، وبالتالي فإن المكان يصبح مقروءا بشكل مباشر عبر العرض لمتلقّ يتساءل أكثر مما يستلم رسالة جاهزة، ويرى أكثر مما يقرأ.
تغيير اللغة داخل المكان "السجن" يتيح الفرصة للتواصل مع الآخر، وهو ما اسهم في لفت النظر نحو شكل جديد من الفعل الثقافي، في ضوء استخدام لغة الصورة المعاصرة الآن، لذلك كان التخلي عن اللغة أمرا حتميا للتعبير عن أزمة وجودية عميقة في أعمالي الفيديوية المبكرة في مشروعي الشخصي، والإشارة إلى عطل اللغة في مقابل تدوير ماكينة الفعل.
الانسجام مع المكان يبتكر لغته كما يبتكر الشاعر هواجسه، وينوء بحمل ثقافته وتاريخه وحتى أسماله القديمة والرثة، وعلينا أن نتفحص أماكن مدننا وبيوتنا كما تشمّ كلبة جروها، وتلحس وجهه، فنحن شعراء بهويات مكانية، وفي لحظة ما من الزمن صرنا أماكن تتنقل عبر اللغة.