ادب وفن

وها يوم إنكضه .. ورحل آخر أخوتي / فرات المحسن

ما كانت لتسعد قلب أخي زهير الدجيلي كل بقاع الدنيا التي تنقل فيها.
وما كان يسعده ويطربه غير ذكر العراق.القصيدة عنده مفعمة مترعة بوجد غريب يتماهى الوطن فيها بالحبيبة.
يوجعه وينخر صدره ويعتصر قلبه شجن المدن وعذابات فقرائها. مسالك ودروب وشعاب عراقه الموجوعة. تجربته تمتد بقسوتها دهرًا، عجنته وصيرته عاشقًا وشاعرًا.
لفح شمس نكَرة السلمان وجفاف صحرائها. سجن بعقوبة وبغداد ومنافى وسجون راوندوز وقلعة مندثرة في الرمادي. وحشة الدروب والضياع، كل تلك السنين العجاف وأيامها المؤذيات الممحلات. أعوام غربة قاسية، ووطن يترقبه من بعيد وهو ينهب ويباع ويتمزق، ولكنها ومع كل عذاباتها لم تجفف في قلبه نداوة الحب وطراوته لا بل زادته وجدًا وتعلقًا فراح يلهج بوطن ويمجده حبيبة. يناجيها بعذوبة مع كل حرف يخطه وهواء يستنشقه.
بهجة الناس وقوة شكيمتهم وبأسهم وحيوية الحياة التي تنبثق من أعينهم يطريها نشيد ما سكن يومًا بعيدًا عن قلبه. يلثم هديل حمامات القباب وهو يحثها على نقل أشواقه لتلك الضياع التي هجرته وهجرها لفرط وحشيتها وفروض عبوديتها. يصقل حبات كلماته من رائحة الطيبة وهي ترش ضوعها عبر نوافذ البيوت لتطلي بقدسيتها وأسرارها وجوه محبيها، فيدسها زهير بين طيات أوراقه ثم يطشها فوق راحة أيادي محبيه.
مياه ومسنايات الأنهر وصوت نواح النوارس وضجيج فرحها.نذور القديسين ورائحة الشمع والياس، خرير الماء في بدعة الشطرة، وزحام الصبايا في أزقة عكد الهوى. وشوارع بغداد واستراحات الصالحية والشاكرية وعريشة في بيت صغير تفوح منه رائحة أهل ومحبين، ودرب رفاق كان يدرج فيه منذ صباه وتزدحم ذاكرته محتفظة بكل ذاك الصخب والفرح والمحبة التي ألهمته وعلمته أبجدية الحروف. كان يعب كل ذلك بشغف وعذوبة ونشوة. يقتنصها مفردة مفردة يرصها بين شغاف قلبه فتكون العراق.
وطن ليس كباقي الأوطان كان العراق..ولزهير بكل ذرة تراب فيه وقفة ولوعة محب.
يا وطن
كلما تنطفي ويملي الرماد عيونك يحركوك
يا زينة أوطان الدنيه يا شيال ضيم الناس
يا بيرغ الهيبة العالية بالناس
بستان المحبة وجنة الدنيا وفرحه وبهجة الأشواق
ياذلتك من أولادك ينهبوك
ياويلي .. هاكثر ضاموك
وروحي ذلت بيك من ذلوك
ياويلي عليك
يا جرح الغميج بكلبي
يمته تهيد
من يقف جوار أبي هدف زهير ويتنصت نبض قلبه يجده مسكونًا حد الثمالة بذاك الحب،
حب ما خفتت جذوته أبدًا.. وطن تستحيل وجوه الناس فيه إلى ألوان وورود وبسمات وقبلات وأمنيات مفعمة بالأمل، ولكنها مغموسة أيضا بآلامها وخيباتها، وجعها الذي فاض وأوجع الجميع فيود ساعة أن يقربها، يشمها، يلملها فرحًا، يتلمسها شوقًا ويتذوقها نداوة.
أرد أجيكم
بلكي ألكَي الشوق ذاك اللي عرفته
أرد أجيكم
عازت أيامي فرح وتريدكم
وها كثر قلبي يلح ويريدكم
الطير من يبعد يزيد الهجر نوحه
أرد أجيكم.
هكذا كان أبو هدف زهير يناجي وطنه.. العراق المجافي والمُعذِب والهاجر والمهجر، القاسي والمتقلب. مجامر العذاب وزقوم الخوف.
ولكن ما سماه زهير يومًا غير الحبيب، البديع، الرائق، العذب، الوجد، الشوق، الحاني الرؤوف، العريق المستديم بالحب، سباح الروح، السرور وبهجة الناس، فسحة السماء وامتدادها، شذى عشب وخضرة الأرض ورائحة بساتين وطليع نخل، وزغب عصافير تفتل منها الحياة بديع صورها.
وأخيرًا وهو على فراش الموت يروض كلماته ويناغي حبيبته.. قالها ثم صمت. وذهب حيث يتوطن غرباء الوطن.. هناك في البعيد يبكونه قبل أن يصحو ليبكيهم.
وها يوم
وها يوم أنكضه
وها يوم حس النايحة
روحي على طارف داركم غيمه على ساعة ورايحه
جن الدرب طال وبعد بيكم وما مش رده
ولا نسمة من عمر الهجر تحي الغصن والوردة
وحنيت وترجه ... أترجه
أترجه بدليلي وعيني
بلجن عذاب أفراكم بهداي من ياذيني
بلجن يحن حاديكم
ناكَه وجزتني القافلة
وناسيني
الآن وبعد كل دهور العذاب وحزن الغربة الممض، سكن صخب الحب وأطمأن قلبه، والتحقت ناقة أخي وحبيبي بقافلتها.. قافلة غرباء الوطن... إنه اليقين المؤلم.
وها قد رحل آخر أخوتي
فوداعا أبا هدف زهير الدجيلي
وبعدك تراني أتأسى على وجعي
ولي برفاقك وصحبك وملايين محبيك وزهو وفائهم وكلمات إطرائهم ما يواسيني.
وأفتخر