ادب وفن

حول تجربة الفنان ناظم رمزي وحياته / جاسم عاصي

إن تجربة الفنان ناظم رمزي الفوتوغرافية؛ تُعد تجربة غنية، بسبب شموليتها وسعة أفقها من جانب ، وعمق تفاصيل لقطاته وإشاراتها التي وفّرتها عينه متحدة مع عين الكاميرا. فهو فنان يعتني باختياراته، بل يُخضعها لتجاربه الغنية، والمفعمة بالتجدد والريادة. وهذا نابع من حرصه على أن يكون الخلود نصيب ما يقدمه من إنتاج ، شأنه شأن فنانين كبار كـ "مراد الداغستاني ، إمري سليم، لطيف العاني،آرشاك، جاسم الزبيدي، فؤاد شاكر، عادل قاسم، عبد علي مناحي، كفاح الأمين ، ناصر عساف"، وغيرهم. فقد أضاف مبكراً وبريادية عالية وجوده ضمن سجّل جمهرة الفنانين الفوتوغرافيين في العراق والوطن العربي، بل في العالم . فلقطاته الفنية التي اتسمت بالتنوّع والشمولية ساهمت في ابراز قدرته ، حيث سجّلت عين كاميرته معظم المشاهدات اليومية ، ذات الصلة بالتاريخ الناصع للبلد . وتنوّعها متأتيا من مجال تأكيده على سعة القاعدة التي اعتمد عليها في انتاج الصورة ، باعتبارها تاريخ لكل مكوّنات الحياة ، بل تعدى ذلك إلى تحقيق جدلية فلسفية ، لاسيّما في تلك اللقطات التي حاكت الطبيعة، والوجود اليومي للإنسان على كل الأصعدة . فما توفر لـ "رمزي" قد لا يتوفر لغيره . لكنه في الخصوصية الذاتية، خضع إلى الاختيار الرؤيوي الذي ألزم الفنان على التدقيق في الظواهر المعاشة ، والالتزام بشروطها الموضوعية من دون مبالغة تُذكر ، أو زيادة في كادر الصورة وعناصرها الموجبة . فالصورة لديه تذهب مباشرة إلى تجلي المعنى الذي ألزمت جُهدها في حقل التدوين باعتبارها لغة مضافة . وباعتبار اللقطة جزءا من تجسيده حركة الأشياء التي قد تغفل عن مدوّن آخر له سُبل خاصة . واقع لابد من تدوينه على صعيد الفن . فقط تحكمت في لقطاته العفوية والمدروسة ، أو النابعة أصلاً من عمق النظرة الشمولية للواقع وما يدور فيه من جدلية الوجود ، منطلقاً من مفردات الحركة في التاريخ الذي اشترطته بنى سائدة ، معلنة وخفية. فالتاريخ شاغل متواصل لنظراته وتجاربه اليومية . وقد أخضعها إلى مبدأ تذليل الصعوبات ، أي التقشير للظواهر ضمن حقل الانتقاء ، من أجل الوصول إلى مشغولات أساسية تُرصّن الفن على كافة أصعدته . كما وأنه ضمن هذا الاختيار خضع للنادر من اللقطات ، التي قد تكون من ضمن ما تطرق إليه غيره من الفنانين ، لكن الخصوصية الذاتية الفنية من تحكّم وأبرز التميّز بين هذه اللقطات ذات التشابه في البنية العامّة ، أما في بنيتها الخاصة ، فأنها خضعت للسبب والنتيجة . فلقطاته خضعت كما ذكرنا إلى مكوّنه المعرفي للظاهرة الاجتماعية ، بما فيها عوامل الانتاج التي حصرناها في محوّر المهن والحِرف . والذي يرفد تجربته واهتمامه بالحياة من أجل إزالة تراكم الحيّف على سطحها وعمقها ، كما نجده قد فعّل جُهده في رصد حياة الطفولة ومحتوى الأزقة والمنعطفات الشعبية . كذلك في مجال الاهتمام بالإنسان وتجسيد مشاعره وأحاسيسه عبر لقطات البورتريه ، التي تميّزت في معظمها ، في عكسها الوجع الظاهر والمضمر . إن ملاحقة حياة الإنسان لم تقتصر على صورة الإنسان المقهور ، بل تعدت إلى الإنسان بشكل عام . وهذا ما اشّره عبر استكمال دائرة علاقاته الاجتماعية والأسرية والثقافية ، الفنية منها والأدبية . فذاكرته خضعت للغنى المجسّد في صوّر معظم المهتمين بالثقافة من خلال العلاقة المباشرة بهم .مما صعّد وتيرة ذاكرته المحتشدة بالجمال والرفعة.
الأثر والتأثير
لكل نص من الأجناس مؤثر ، وهذا المؤثر يترك أثراً يخضع للنسبية في التأثير على المتلقي . إذ يخضع إلى طبيعة الإنسان وتشكلاته البنيوية ، التي تخص وعيه الذي يقوده إلى إدراك الظواهر وحساباتها . وهذا يقود إلى حساسية المرء إزاء ما يتلقى من أفعال ومعارف . والصورة الفوتوغرافية لها محمولات كهذه شأنها شأن الأجناس الأخرى ، فهي تخضع إلى القدرة على فسح المجال لتحليل محتواها ، لاسيّما ما رافق الصورة من تطور في التقنية ،وتأثير المهارات وسعة الرؤى ، وغنى تجربة الفنان المصوِّر في الحياة وتنوّعها كالفنان "رمزي" الأمر الذي اجتزأ النسبية تلك إلى التأثير الذي يتركه الأثر "محتوى الصورة" على الرائي . وربما يكون أكثر وقعاً ، لأن الصورة خطاب مباشر ، يسمي الأشياء مباشرة ، ولا نقول نقلاً للمشهد فحسب ، لأن اللقطة تأتي ويتم احتواؤها عبر منظور ثقافي وفكري مدروس ، لأن التقنية ، ووجهة النظر ، وطبيعة الرؤى تداخلت في فحص المستوى الذي عليه الواقع في الحياة ، والمنقول عبر الصورة . ولكن عموماً أن الصورة خضعت إلى فحص مباشر ، وهذا الفعل ارتبط بالمؤثر بمقدار ما تركه من أثر جمالي ونفسي ومعرفي . بمعنى خضعت الصورة إلى فحص نقدي رؤيوي شأنها شأن الأجناس الأخرى . فهي تمتلك شفرات لا تختلف عن لوّحة الفن التشكيلي مثلاً في تباين مستويات النظر ، بما تضمره خارج ما هو مكشوف للرائي ، فهي تحتوي على مستويين من الدلالة ، ظاهر ومضمر ، لأنها ارتبطت أساساً بالظواهر . وبالتالي أصبحت وثيقة تأريخية مهمة ، يعوّل عليها في فحص مستويات طبيعة الأزمنة والأمكنة وما حصل ضمن دائرتيهما من بنى تؤشر الحُقب وحراكها ، تقدمها وتخلفها ، تدهورها وتطورها ... الخ .
الفنان ناظم رمزي إنسان واسع التجربة في مضمار الحياة العامّة ، والخاصّة . فالعامّة نعني بها سعة تجربته التي اكتسبها من خلال المعايشة لواقع متغيّر ، وتجواله في أكثر من موضع ، خاصة خارج الوطن ، أتاح له الفرصة لتنمية قدرته على المقارنة والتميّز. لذا نجده ينحاز للقاع من الحياة ، ولتنشيط مخياله الفني عبر رؤاه للمكان الشعبي . فهو فنان غير متعال على بيئته في الوطن . ولم تُشكّل حياته المتنوّعة في التجوال في العالم نوعاً من القفز على واقع الناس البسطاء ، بقدر ما ركز في سمات ظاهرة الانحياز لحياتهم . أما في مجال الخاص ، فنعني ما اكتسبه من معارف ، سواء من خلال اطّلاعه على ما هو متوفر في مصادر المعرفة ، أو ما اكتسبه جرّاء مجايلته كبار الفنانين والمفكرين والأدباء في العراق . فهو لم يغفل رمزاً من رموز المعرفة والفن إلا وكانت له علاقة عميقة به ، إنه كفنان اكتسب من الآخرين معارفهم ،وأكسب الآخرين من معارفه ، في التشكيل والفوتوغراف والطباعة .