ادب وفن

ما أقصرَ المسافةَ وما أبعدَها! / عبدالكريم كاصد

ما أكثر التفاصيل التي تحضرني حين أتذكرُ رياض!
لكنَّ تفصيلين لن أنساهما أبدا.
لا لأنهما الأبرز ولا لغرابتهما، بل لما رافقهما من فرحٍ هو نقيض طبيعة هذين التفصيلين.. فرحٍ سأشير إليه لأنه هو الذي يعنيني الآن ويستوقفني ويلحّ عليّ.
حين قرأتُ، لأول مرة، قصائد رياض عن الموتى، التي ضمّها ديوانه "وعلٌ في الغابة" فاجأني فرحه هذا.. فرحه الذي لم يعد فيه الموت موتاً، ولا الحياة حياةً، لأنّ ثمة ما يتجاوزهما إلى عالم آخر هو ليس حياة ولا موتاً، ولا هو ما بين بين، فالقبر لم يعد مكاناً حائلاً دون فرحٍ، والموت لم يعد سدّاً أمام تدفق حياةٍ، كما إننا لا نرى أثراً لحزن قد يطالعنا في الحياة حتى وهي في أوج فرحها وتدفقها.
في قصيدته "دراجة" يقول:
الولد فوق الدراجة
سعيداً، ضاحكاً، منتشياً
يدور في فناء قبره
"حين كان حيّاً
سقط عن الدراجة ومات"
الولد في فناء قبره
يدور بدراجةٍ من عظام
سعيداً، ضاحكاً، منتشياً
لم يمت الطفل وإن مات.
ولم يعش الطفل وإنْ عاش ثانيةً.
حياةٌ وموتٌ معلقان، خارجان على ما اعتدنا عليه من تصورٍ أو أعراف.
من أين ينبع فرحه هذا؟ أمن تحديقه الطويل في الحياة نفسها ليكتشف جذرها في الموت؟ أم من تحديقه الطويل في الموت ليكتشف جذره المتأصل في الحياة؟
لماذا يعود الموتى إلى الحياة؟
لماذا يعودون إليها وهم في موتهم ذاته، لم يغادروه إلى فردوس أرضيّ ولا سماويّ، بل يمكثون حيث هم، وحيدون مستأنسون بوحدتهم، بعيدون عن الوحشة والحزن اللذين يرافقان الوحدة عادةً في الحياة... مكرّرين أفعالهم بنشوة المحبّ المأخوذ بحبّهِ أبداً:
الولد في فناء قبره
يدور بدراجةٍ من عظام
سعيداً، ضاحكاً، منتشياً
إنّ من يجد الفرح في القبر أيغشاه الحزن في خارجه؟ كان رياض متوجاً بالفرح وهو يعبر أحزانه.. فرح الطفل والشاعر معاً، متجوّلاّ بين حياةٍ وموت، بين فرحٍ وحزن، كما يحلو له، لا عامداً وكأنّ هذا سجيةٌ فيه، كميّتهِ صاحب الدراجة سعيداً ضاحكاً منتشياً.
قبل موته ربما بساعة أو أقلّ حملتُ نفسي وذهبت دون أن أتخيل أنني سأرى الموت أو أصادفه في طريقٍ أو عند سرير في مستشفى أبداً، فرياض كأبطاله خارج الحياة والموت، في تلك المنطقة الأثيرية حيث الأضداد لا وجود لها.. فرحٌ مطلق لا تشوبه شائبة من حزنٍ أبداً.. أبداً.
كان رياض في سريره في غيبوبةٍ وكانت أمّهُ جالسة على حافة السرير الفارغ المجاور لسريره مرتدية السواد كعادة أغلب أمهاتنا ولكنها، مثلي، لم تكن تتخيل أن ابنها النائم في سريره يمكن أن يغادرها بعد ساعة أو أقلّ، وهي لاطمئنانها، ربما، كانت تُحدّث، عني وعن رياض، امرأةً زائرةً تجلس إلى جوارها أبدت استغرابها من يقظة رياض المفاجئة حين دنوتُ من سريره وقد رآني "لا.. لم يرني، فهل كانت يقظته بفعل حدسٍ خارق"؟، سمعتها تقول لها: إنه صديقهُ، وكانت تعني بنبرتها أنه صديقه الحميم، ربما أضافت كلمة أخ.. لا أتذكر تماماً.
كانت انتفاضتُهُ وهو ينهض من السرير ليعانقني مفاجأةً، لحظةً نادرةً لا تتوقعها الأمّ التي أفضت إليّ فيما بعد، عند مغادرتي، أنه لم يستيقظ لحديثها معه. "كلما تذكرتُ ذلك شعرت بحزنٍ شديد". لم تكن لحظة في الحقيقة وقد امتدت إلى الموت أو امتدّ إليها الموت، وإنما هي لحظة أبدية لا تعود إلى الحياة مطلقاً.. لحظة هي المحبة ذاتها.. الحياة ذاتها.. والموت ذاته.
كانت الأم منكسرة مهمومة تحدّث المرأة الجالسة جوارها وتعبّرُ لها عن محبتها أيضاً، وهي ترى المحبة مجسدةً بين صديقين.
لم يكن رياض يتحدّث.. كان يغمغم بمحبته كالطفل وطيفُ ابتسامةٍ يعلو وجهَهُ الضاربَ إلى حمرةٍ خفيفةٍ في أجزاء منه، فهو لم يكن بحاجة إلى حديث ولا كتابة ولم يكن يستطيعهما.. كنت أشعر بوحشة لأنّ المكان بدا لي وكأنه مهجور فأنا لم أرَ طبيباً جنبه، ولا ممرضةً وفي كلّ الأحوال لم أكن أتخيل موته.
غادرتُ المستشفى وبعد مغادرتي بدقائق، ربما، كان هو الذي غادرني.
في صباح اليوم التالي رافقتُه إلى قريته.. إلى مقبرتها البعيدة، ولكن من دون أن أستطيع معانقته، أو يستطيع معانقتي. كان معي من أصدقائي العراقيين: هيفاء أحمد، بدور زكي، مهدي محمد علي، عبدالله الصخي، ومن أصدقائي السوريين أتذكر: محمد كامل الخطيب وبندر عبدالحميد.
ما أقصرَ المسافة التي قطعتَها بين الحياة والموت!
وما أبعدها!
ما أبعدها يا رياض الصالح الحسين!