ادب وفن

نوروز في البصرة / مقداد مسعود

الليلة ونحن نطرز صينية عيد نوروز بألوان الشموع وصحن ملآن بالسكر والفاكهة وأوراق الآس والخس ونضع نسخة من القرآن الكريم على مسند خشبي وسمسم منضود بشكل معين ... وووالخ ، تذكرت تطريزات والدي في تلك السنوات .. عصر يوم نوروز كل اهالي البصرة يتنزهون على كورنيش شط العرب ، وشط العرب لحظتها ،إذا رميت ملحا الى الأعلى فلن يصل الارض ،وهناك سفينة من نوع امهيلة تسحب خلفها (جالبوت) : زورق صغير ، ومن المهيلة والجالبوت ، يلتقط والدي مثلا حين يرى شخصا لا يستطيع التخلص من آخر فيقول (جالبوت ورا المهيلة ) في عصر يوم الكسلة وهي التسمية البصرية ليوم نوروز....تمر المهيلة ، فيعلو التصفيق مرحبا بمهرج البصرة العظيم (تومان ) وهو يعزف الناي بأنفه ويرّقص جسده بحركات كوميدية..الكسلة تواصل كرنفالها اللذيذ ، والبيوت شبه فارغة لكنها مطمئنة ، الكورنيش لايسع آهالي البصرة فيتحوّل الشارع رصيفا للفرح ، الشارع يكتظ بالعباءات النسوية وبالجميلات السافرات وملابسهن الانيقة ..كلهن سعيدات غير خائفات من تهديدات ذكورية واخزة ..جمالهن مهيب يفرض علينا احترامه بل تقديسه ، معظم الشبان كانوا يومها يعاقرون ابنة العنب ، لامن اجل التحرر من الاخلاق ولا للانفلات الاجتماعي بل لأقتناص نشوة لذيذة لاتخلو من رهف الاحساس في التعامل مع المجتمع ..بعد مغيب الشمس بساعة أو أكثر يبدأ الانحسار البصري من الكورنيش ، في المسافة المعشوشبة الممتدة من نهاية الرصيف الى حافة الشط ، تبدأ بعض العوائل بتناول سندويجاتها وتواصل السمر الجميل ، ينصرف الشباب الى بارات شارع الوطن وهناك من يتفقون في بيت احدهم او في مكتب لصديق ..يرتشفون ابنة العنب والقصائد والحوار السياسي والروائي ، يلتقط أبو زوين آلة العود ويعزف أول همسة لفريد الاطرش ... ثم يدخل الفتى الزنجي جبار متأبطا زنبوره (طبل رفيع بخصر رشيق)، يقف في باب المكتب ويخرط بأصابعه على الزنبور، ذلك العزف الناعم الجميل..ليلتها يتحول المكان الى فرقة خشّابة مصغرة ، تستعيد اغنيات حسين بتور ومحمد بتور وأربيع ....بعد منتصف الليل ..ينصرف كل منهم الى بيته ...منتشيا سعيدا متزن الخطوات ، بمفتاحه الخاص يفتح باب البيت ، ويقصد الغرفة التي ينام فيها مع اشقائه، يغيّر ملابسه ..وتصبحون على خير ..