ادب وفن

الشعر يحتفي بذاته الكونية / محمد رفيق *

يحق للشعر أن يحتفي بذاته الكونية، فماء الشعر معين لا ينضب، والقصيدة هاجس الشاعر اليومي بين سماءين، لازمة الحضور في مساءلة الحياة والذات والإنسان والكون، لقد كان الشعر على مر عصور التاريخ ديوان العرب، وناقل أخبارهم في امتداد المكان، وحروبهم ومسامراتهم ومناظراتهم.
إن قيمة الشعر ومكانته المائزة، جعلت الشاعر لسان القبيلة، وجعلت سوق عكاظ فضاء للارتقاء بالذائقة الشعرية، والتفاضل بين الشعراء، وكان النقاش للموازنة بين أشعار العرب، وكانت المعلقات التي كتبت بماء الذهب، إعلانا عن الاحتفاء بالشعر في ما سماه المؤرخون والنقاد بالعصر الجاهلي. لقد نقل الشعر قصص الشعراء الصعاليك، وآثار هيامهم في الصحراء، وكان رسالة الوعي الجمعي للعشيرة، وتيه امرئ القيس في امتداد المكان:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل // بسقط اللِّوى بين الدخول فحومل.
زاوج الشعر بين الذات والجماعة، وأرسى قواعد الدولة في جدال حاد بين الدين والأيديولوجيا من جهة، وسطوة العشيرة من جهة ثانية في صدر الإسلام، ولولا الشعر ما وصلتنا روائع النقائض بين جرير والفرزدق، ومشاحنات الشعر السياسي والمذهبي في عهد بني أمية، وعودة سطوة الشعر إلى عهود الازدهار في العصر العباسي، وآليات التجديد والتحديث فيه مع مسلم بن الوليد وبشار بن برد، وأبو تمام في ارتقائه بالصورة وما سمي بالغريب في إبداعاته، وأبو نواس وخمريات الشعر، فقال:
عاج الشقي على رسم يسائله // وعُجت أسأل عن خمارة البلد
لقد كان الشعر ومنذ الأزل عنوان الحياة، ألم يكن الشعر رسالة تطوي الزمكان لفتح عمورية من طرف المعتصم، واحتفى الشعر بذلك مع أبي تمام، "السيف أصدق أنباء من الكتب // في حده الحد بين الجد واللعب"، واحتفى مع ذلك النقاد القدامى بالذائقة الشعرية، فكتب الآمدي الموازنة بين الطائيين "البحتري وأبو تمام".
مدرستان متميزتان ومختلفتان في الشعر العربي، أثرت ذاكرة القارئ العربي في الاطلاع على الصراع بين المحافظة والتجديد، وكتب أبو هلال العسكري كتاب "الصناعتين"، أفرد فيه فصولا كبيرة للشعر، وكتب قدامة بن جعفر كتابه في نقد الشعر، وبحث ابن سلام الجمحي في مقاييس الفحولة وصناعة الشعر في كتابه "طبقات فحول الشعر".
كل هذا ينم عن متعة الشعر وجماليته، ويوحي بمكانة الشعر في ثقافة الشعوب، وحضوره الدائم في مواكبة رحلة الإنسان منذ القديم، ألم يحتفل الشعر بكل رحلات عوليس في الإلياذة والأوديسة لهوميروس، وحصانه الخشبي في اختراق أسوار طروادة، وكتبت كل الملاحم بلغة الشعر لا النثر، فكانت مياه القريض تقود سفينة الحياة منذ البداية، ألم يصنف أرسطو أنواع الشعر، إلى شعر ملحمي وتمثيلي وغنائي، ما يبرز قيمة الشعر في المجتمعات السابقة، إلى أن نظرت الناقدة الفرنسية سوزان برنارد، إلى أحدث ملامح الشعرية الجديدة مع قصيدة النثر في قمة توهجها وفجائيتها، ونقل تفاصيل الحياة اليومية والانفتاح على الدرامية والسردية، لقد حبل الشعر بالكثير من السمات الفنية والجمالية، التي تغنت بجمالية الصورة والخيال، والانصهار في المكان وامتداداته، ولولاها ما قال السياب في العراق، «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر// وشرفتان راح ينأى عنهما القمر»، وقد تغنى الشعراء بالشعر والقصيدة كغاية ووسيلة، ولا تفتح ديوانا إلا وتجد بين طياته قصيدة تحاور الشعر والقصيدة، فالشعر في تغنيه بالحياة والإنسان والكون، يمتاح من معين التراث الإنساني ورموزه العالمية، التي تعكس أبعاده الحضارية والإنسانية ورسالته الكونية، لذلك فالاحتفاء باليوم العالمي للشعر، هو مجرد إحياء لسلطة الذاكرة لتعود إلى منابعها الأولى، المنقوشة بماء الشعر وعنفوانه، وكونية اليوم هي مجرد رسالة رمزية، لإعادة سؤال الشعر ومدى مواكبته تناقضات الواقع والعصر، رغم أن الشعر يحتفي بذاته في كل لحظة من لحظات الزمن، وهو يحاور في رسالته الإنسان وعلاقاته مع الطبيعة والذات وجميع مكونات العالم، فالاحتفاء هو احتفال بالعودة إلى الأصل ورسالة الشعر الكونية في أبعادها المختلفة والمتنوعة.
الشعر سؤال كوني لقلق الذات في احتفائها بالحياة في صورها المختلفة، كان عنوان البداية الأبدية الأولى في مخاطبة الكون، فالحياة بطبيعتها تحتفي بالشعر، وهو ماء الوجود كما كان دائما، ومتى ارتقت اللغة في ثنايا الخيال كان الشعر حاضرا خارج كل أسوار الهيكلة أو النمط الشكلي، فالشعر نزق في أصله غير ثابت ولا يمكن تحنيطه في قدّ معين حتى وإن كان ممشوقا.
تبقى التجربة الشعرية على اختلاف مصادرها وتلاوينها، هي العنصر المحدد لماهية الجوهر، أما الشكل فمجرد عبورية آنية إلى قصيدة أخرى، ولكل قصيدة ماهيتها في تحديد الشعر، لأنه كشف ورؤية وتجربة جديدة على الدوام كما عبر عن ذلك أدونيس.
لذلك ستظل القصيدة في سفر مع المعنى والقارئ في مسالك الغموض والارتحال بين الذات والفضاءات، وفق تجربة كل شاعر وأدوات اشتغاله على النص، لكتابة الحياة بشكل جديد، باعتماد على رؤية الشاعر، لأنه صاحب رسالة يحملها نصه أو شعره.
تأملات شعرية:
كُلُّما اعْتلى المكانُ تاءَ التأنيثِ،
تكتبُ القصيدةُ أناشيدَ الرعاةِ،
في كل مرّة، تناغي ألوانَ الرمادِ،
تيْنعُ شجرةُ الذاتِ
تُصَفِّفُ أَلَقَ الُلّقْيا
تستأنفُ البدايةُ شعْرَ المُنْتهى،
لينة تَجوب المجرّةَ،
تلاقي آخَرَها،
تستبيحُ دمَ الكلماتِ،
ترشُفُ دخان المتعددِ،
تعْرجُ كالصباح الباهتِ
إلى الحضن وحيدةً،
تناغي الكينونة وئيدةً،
تستوي تفاصيلُ الحياة حُبّاً وشعرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شاعر وكاتب من المغرب