ادب وفن

هدية حسين تستعرض سرد الكاتبة ريام الفضلي / عبد الله عبد الكريم

يمثل الجانب البنائي – الشكلي للحبكة السردية، واحدا من أهم المرتكزات الأساسية التي يستند إليها السرد الروائي والقصصي، وشخوصه وأحداثه ووقائعه. فمن خلاله تبرز قوة وضعف تلك الحبكة، ومدى تأثيرها في القارئ.
وتختلف أساليب معالجة السرد من الناحية البنائية، من حيث التقنين الزماني والنمطي الذي يفرضه الكاتب، ونوعية الفضاء الافتراضي الذي تخلقه لغته، ونوع الراوي، والمهام الموكلة إليه، باعتباره حيا على مدى الزمن السردي، ومراقبا مباشرا للأحداث، وواصفا دقيقا لها، ومعنيا بالتواصل الدلالي والتوضيحي في عكس الوقائع المتخيلة. وتبرز قوة هذه المعالجة السردية بحسب اللعبة التي يلعبها الروائي الكاتب، والذي ينزع نحو أسلوبٍ في السرد تحدده متطلبات الحدث المراد سرده إلى المتلقي أو المروي له. فالبنية الشكلية للسرد القصصي أو الروائي، تكاد تكون جوهر النص السردي، وتتأكد رصانتها في حال ملاءمتها وانسجامها مع الأحداث والوقائع المتخيلة، وكل ذلك يعتمد على مهارة الكاتب في اختيار الأسلوب الأنجع في إيصال الحكاية إلى المتلقي.
في روايتها "ريام وكفى"، تؤسس هدية حسين بنية شكلية مقصودة في إيصال الأحداث إلى المتلقي خارج المتن الحكائي. فهي تنضو عن نفسها، مسؤولية كتابة النص السردي، وتنسب تلك المسؤولية إلى الراوية "ريام". إذ ان الأخيرة هي من تكتب الرواية وتوجهها إلى متلقين داخل متنها. فيما الأولى تعمل على نقل ما تكتبه "ريام" إلى متلقين خارج ذلك المتن.
تتساءل "ريام" في داخل روايتها التي كتبت: "لماذا أكتب عن تلك الأيام وأستحضر أرواح من ماتوا؟ هل خوفا من نسيان ما جرى كما أحب أن أقنع نفسي، أم لأهرب من رمال الصحراء التي غطت حقولي وأحاول درأها لكي لا تتيبس تماما؟ أم تراها رغبة في تخفيف الضغط عن قلبي من هزيمتي في الحب؟ ربما هذا وربما ذاك وربما لكل تلك الأسباب". "ريام وكفى".
تستعرض هدية حسين في هذه الرواية، حكاية صبية تعيش وسط عائلة ذات مسحات مزاجية متغايرة: الأم "سمر" التي تمثل لتلك الصبية "ريام" ولأختيها الكبريين "صابرين" و"هند"، الملاذ العاطفي الحاني الوحيد. الأب المتسلط "ياسين الفضلي" الناقم على بناته الثلاث وأمهن التي لم تنجب له ولدا- حتى أنه أسمى ريام "كفى" – الاسم الحقيقي - واضعا بذلك حدا لإنجاب البنات - الجدة "مسعودة" المساندة للأب والمنحازة إليه ضد زوجته "سمر"، فضلا عن زوجة الأب الشابة "بهيجة" التي تتمظهر بالمحايدة طيلة فترة وجودها داخل المتن السردي، والتي تتصدر قلبي زوجها وحماتها، نظرا لتحقيقها الحلم الذكوري المفرط في إنجابها الابن "محمود"، ولغنجها وأنوثتها البضة.
في منزل بغدادي لا يخلو فضاؤه من صراعات مستديمة، وتوترات في علاقات ما بين أطراف متغايرة، تطلى شخصية "ريام الفضلي" بألوان سيكولوجية شتى، حتى ان أجزاء وعيها الذاتي والموضوعي تتنامى وتتركب سريعا. فهناك الأب القاسي، والجدة الإشكالية الغضة، والأم التي لم تجد مهربا من هول احباطاتها المتكررة مع زوجها، سوى في اللجوء إلى مزاولة مهنة الخياطة، التي أورثتها في ما بعد إلى بناتها الثلاث.
تصل التوترات في المنزل إلى مستوى حرج، إثر موت "بهيجة"، وتصبح في أوجها بعد أن يعقبها "ياسين الفضلي" متحسرا، ليبقى "محمود" تحت رعاية جدته "مسعودة"، التي تشجعه على السرقة منذ صغره، حتى يغدو نزيل سجون، ما يحدو بـ "سمر" إلى ترك المنزل هي وبناتها، خوفا من ان يلحق بهن عار جنوح أخيهن، وإلى استئجار منزل في منطقة أخرى، لتلقى على عاتقها هي وبناتها الثلاث كربات العيش الانعزالي، التي لا مفر منها سوى في الاستمرار في مزاولة مهنة الخياطة.
تشق حياة "ريام" سبل متعرجة، ملؤها صدمات متتالية، تعترض فيها عتبات رحيل أبدي.. موت متواصل، الأب، زوجة الأب، الجدة، الأخت الوسطى "صابرين" التي تنتحر بعد أن يعتدي عليها عمها السكير "نعمان"، ثم "نعمان" نفسه، فالأم. وفي الوقت ذاته، لم تحظ "ريام" بحياة هنيئة مع أي من الرجال الذين أحبتهم. فهي مهزومة في الحب دوما: "ريحان المعيدي" يتركها ويغادر بغداد نحو جذوره في الأهوار،" نجم الذيب" يهجر بغداد ويتوجه صوب السماوة فيقتل هناك أمه الخائنة وزوجها الجديد ويودع السجن، صاحب المكتبة الذي تفاجأت في أحد الأيام بتحول مكتبته إلى محل لبيع الأحذية من دونه، ثم جارها الذي تعتقله السلطة الجائرة لانتمائه إلى حزب معارض. "لماذا يغيب الرجال عن حياتي بشكل دراماتيكي؟ من يلعب معي تلك اللعبة الخبيثة؟ أم ان سوء الطالع يلاحقني؟ ترى من يرسم مسارات حياتنا من دون أن ندري؟ أنا امرأة على جانب من الثقافة واللياقة والجاذبية، فلماذا يختفي الرجال من حياتي؟".
تنتهي الحكاية بمغادرة "ريام" منزل عائلتها الذي تعود إليه مجددا بعد موت أمها، وتعيش فيه هي وقريبتها "فاطمة"، وأختها "هند" التي هجرت عائلة زوجها "سامي" بعد أن أودع الأخير السجن بسبب فساد مالي. إذ تغادر "ريام" المنزل من دون أدنى أمل في العودة، نظرا لانكساراتها المستمرة، والضغوط التي تتلقاها من قبل أختها "هند" التي تتحول إلى متسلطة حادة المزاج.
ان "ريام" في مغادرتها المنزل، أرادت أن تنضو عنها أحمال خسرانها المتكرر، وأن تبدأ حياة جديدة "دخلت الكراج، وضعت الحقيبة في صندوق السيارة وخرجت، راودني شعور بأن قصتي لم تبدأ بعد، ها أنا أضع قدمي على طريق البداية بعيدا عن بيت العائلة وأشباح الموتى، وأحس كما لو اني أتجدد مثل شجرة في أول الربيع، وأن أعماقي تنفض عن عروقها كل ما يمكن أن يوقف جريان الدم في جسدي". كذلك حاولت "ريام" في مغادرتها المنزل النزوع صوب الخلود عبر رواية كتبتها، وتأبيد اسمها بعد أن فشلت في جميع تجاربها العاطفية.
هنا تنتهي حكاية "ريام" التي كتبتها بقلمها، والتي نقلتها إلى القراء الكاتبة هدية حسين. إذ كانت "ريام" قد عزمت عقب توغلها في العقد الثالث من العمر وعودتها مجددا إلى بيت عائلتها القديم الذي يحمل ذكريات أفراده الميتين وأشباحهم، وبعد أن تزاحمت في مكنوناتها محطات حياتها المتشابكة، ونكباتها وانكساراتها.. أقول انها بعد ذلك كله، عزمت على كتابة رواية عن حياتها الشائكة، مستندة إلى ما تجود به ذاكرتها، وإلى يوميات كانت قد دونتها في العشرينيات من عمرها. ويتجلى في ذلك عمدها على الانتهاء إلى رواية قراؤها على شاكلتين: افتراضيون في داخل المتن الحكائي "لعل أوراقي تبقيني بعد موتي، لعل أبنائي الذين لا أعرف متى سيجيؤون للدنيا يقرؤون ما أكتب، أو ان أحدا سيقرؤها ذات يوم ويتذكرني". وواقعيون خارج المتن الحكائي يقرؤونها حينما تعرضها عليهم، بأمانة، ناقلة اسمها هدية حسين، وكل الأحداث التي ذكرت مختصراتها، كتبتها "ريام"، واستعرضتها هدية حسين بأمانة وصدق ودقة.
إن الكاتبة الافتراضية "ريام"، وهي تزاول نشاطها في كتابة قصة حياتها بأسلوب روائي واقعي مقنن، لا تسرد أحداث ووقائع تلك القصة باعتبارها شيئا من الماضي يسرد في زمن حاضر، بل ان الأمر يتعدى ذلك؛ فكتابتها مستمرة في السير على طول خط زمن السرد. إذ انها تكتب وتروي في آن واحد، ويُقرأ لها في الآن ذاته، وأن المتلقي الخارجي هو المعني بالضغط على زر تشغيل مَشاهد الرواية، وهو من ينفخ الحياة في شخوصها ومتلقيها الداخلي.
كذلك ان "ريام" حصرت في متن روايتها شطرا من حياتها، يبدأ منذ الصبا، وينتهي منتصف العقد الثالث. وقد سردت الأحداث وجزّأتها على نمط زمني متذبذب؛ مرة يكون تصاعديا، ومرة أخرى تنازليا، وأحيانا يكون آنيا، وفق اشتغال فني متماسك، وبحسب ما تستدعيه حبكة السرد. وقد اصطفت الكاتبة الافتراضية، بعض الوقائع الحياتية وداخلتها في متن السرد، وزجت بها في ما بين الفقرات كدعائم توضيحية وتفسيرية، سعيا إلى إشباع فضول متلقيها الافتراضي داخل المتن الحكائي، وإلى جذبه إزاء التعايش مع حكايتها، والانغماس فيها.
تبدو الكاتبة الافتراضية "ريام" وهي تسرد حكايتها الواقعية، وتشرك معها في زمن الكتابة اختها "هند" وقريبتها "فاطمة"، انها على وعي تام بقصديتها في ما تروم توجيهه إلى متلق يقرؤها وهو مسجون في داخل المتن الحكائي - على حد ما ينكشف للمتلقي خارج المتن. أيعني ذلك انه ليس هناك مجال لإطلاق سراح شخوص حكاية "ريام" من سجن المتن الحكائي، سوى عبر ناقلة الحكاية هدية حسين، التي تشرع أبوابا مجانية أمام الشخوص، ليفروا من المتن، ويتعايشوا مع مخيال المتلقي الخارجي، الذي يبدو أيضا انه من يصدر قرار العفو عن الشخوص المسجونة في زنزانة المتن الحكائي، بعد شروعه في القراءة؟ أرى ان ذلك كله يمكن أن يحدده السرد في حد ذاته، من دون الاستعانة بالشخصية الراوية. فالنص السردي ذو البنية المتماسكة، هو من يفسح المجال لخيال القارئ المتلقي لكي يفرج عن الشخوص.
إن البنية السردية التي أسستها هدية حسين في روايتها، تؤشر ربما، سعيها إلى التنصل من مسؤولية الأحداث والوقائع المسردة، وإلى إخفاء نفسها ككاتبة وراء ستار "إيهام القارئ". وفي الوقت عينه تؤشر تلك البنية محاولة في تحويل الافتراضي إلى واقعي. فالكاتبة هدية حسين استنهضت الشخصية المركزية في روايتها، وأوكلتها مهمتي الروي والكتابة، ربما سعيا لانتزاع تلك الشخصية من المتن الحكائي، ونقلها إلى الواقع الخارجي، رغما عن ضعف رجحان ضرورة ذلك. فموضوعة الرواية لا تعالج قضية الكتابة في ذاتها، أي انها مثلا لم تتناول سيرة حياة كاتبة في حد ذاتها، أو شخصية أدبية مُتَخيَلة، ولم يجر التأكيد فيها على مهارة "ريام" في الكتابة، سوى من نواح جزئية هنا وهناك.. لذا أرى انه بالإمكان أن تؤسس هدية حسين البنية السردية لروايتها وفق تصميم آخر، لا يحمّل الشخصية الراوية مسؤولية أكبر، لكون الأحداث المسردة خالية من التعقيد، ولا تعالج سوى مساحات ضيقة من الواقع، تختصر في عائلة واحدة، وتذوب أخيرا في عوالم أحد أفرادها. إذ إن صفة الكاتبة الروائية المنسوبة إلى "ريام" فائضة، ولا تستدعيها ضرورة.